ميزان التراب


 

كانت القرية الصغيرة تنام على صوت الريح، وتستيقظ على صهيل الخيول وصرخات الباعة في السوق الأسبوعي.

في طرفها الجنوبي، تمتد أرض الحاج سالم العمدة، رجل له من المال ما يكفي ليشتري نصف القرية، وله من النفوذ ما يجعل الناس يبتلعون الغصص صامتين.

وفي الطرف المقابل، كان يسكن عمّ راضي، فلاح بسيط يملك نصف فدان ورغيف كرامته، يعيش على ما تجود به الأرض من قمحٍ وشعير، ويعلّم أبناءه أن "الحق لا يُؤكل حتى لو جاع البطن".

لكن الحاج سالم كان يرى الأمر بعينٍ أخرى؛

ففي نظره، الحق ليس إلا ما يملكه الأقوى، وما يُثبَت بالأختام لا بالعدل.

وذات مساءٍ، خرج في جولة تفقدية لأرضه الممتدة، يتبعه كاتبه "فوزي" وهو يحمل خريطة الملكيات.

وحين وصل إلى الحد الفاصل بين أرضه وأرض عمّ راضي، قال مبتسمًا:

 "انظر يا فوزي... لو تقدّمنا بالسور بضعة أذرع، فلن يضرّ أحدًا، فالحدود وهمٌ، والأرض أرض الله، ونحن عمّارها!"

ضحك فوزي مجاملةً، بينما كان في داخله شيء ينكسر، لكنه سكت.

في الليل، جاء عمّال سالم وهدموا السور القديم، ثم أعادوا بناءه داخل أرض راضي.

وفي الصباح، وقف عمّ راضي مذهولًا أمام المشهد، وصرخ في وجه العمال:

 "هذه أرضي! هذا رزقي ورزق أولادي!"

لكن الحاج سالم خرج من داره متجهمًا وقال ببرودٍ قاتل:

"هات ورقة تثبت، أو شاهدًا يشهد. القانون معي يا راضي، والناس تعرف لمن الأرض."

سكت راضي، وهو يرمق السور الجديد بنظرة طويلة تشبه الوداع.

منذ ذلك اليوم، ذبلت ملامحه، وصار يذهب إلى حقله المبتور كمن يزور قبرًا، لا أرضًا.

أما سالم، فبنى فوق الأرض المسروقة بيتًا لابنه البكر، وقال بفخر في المجلس:

 "الذكاء نعمة، ومن لا يأخذ فرصته في الحياة يبقى تحت الأقدام."

مرّت الأعوام، وتغيّر وجه القرية.

انشقت الطرق، وغاب الفلاحون، وبقيت أرض سالم كما هي، إلا أن الغريب أن تلك القطعة المسروقة لم تُثمر يومًا واحدًا.

زرعها القمح، فخرجت سنابلها صفراء كالرماد.

غرس فيها الزيتون، فجفّت أغصانه كأنها ترفض أن تُبارك الظلم.

قال الناس همسًا:

"الأرض تعرف صاحبها، وإن سُرقت، تُغضب السماء."

وفي أحد الأيام، مرض الحاج سالم، فزاره الأطباء فلم يجدوا داءً واضحًا.

جسده يضعف، وصدره يثقل، وكأنه يحمل فوقه أطنانًا من التراب.

وفي ليلةٍ مظلمة، سمع صوته خادمه وهو يهذي:


 "أعيدوا السور... أخرجوه من أرضي... الأرض تختنق!"

مات سالم بعد أيامٍ قليلة، ودفنوه في جنازة فخمة، حملها الناس صمتًا لا خشوعًا.

وبعد سنوات، حين أراد ابنه بيع الأرض، جاء المشترون، فبدأوا الحفر لتجديد الأساسات.

وما إن وصلوا إلى السور القديم حتى وجدوا تحته عظامًا بشرية متداخلة مع الجدار.

تبيّن لاحقًا أنها بقايا عامل فقير كان قد اختفى ليلة بناء السور.


انتشر الخبر، وارتجّت القرية كما لو أن التراب تكلّم أخيرًا.

وقيل إن الأرض تلك لم يُزرع فيها شيء بعدها أبدًا، حتى تحوّلت إلى مقبرةٍ صغيرة للفقراء.

وعلى مدخلها، ثبتت لافتة خشبية كتب عليها بخطٍّ باهتٍ:


 "التراب لا ينسى... ومن يأكل الحقّ، يأكله التراب."



تعليقات