بقلم: ناصر بن محمد الحارثي
بعدَ أنْ حملَ عادلٌ رسالةَ الظالمِ، عاشَ أياماً مثقلةً بالخوفِ والرهبةِ منْ مصيرِ منْ يضيعُ الحقوقَ، ومِنْ هولِ ما رأتهُ عيناهُ منْ عذابِ أهلِ تلكَ القبورِ. كانتْ لحظاتٌ صعبةٌ في نفسِ عادلٍ، لقدْ أدركَ أنَّ الدنيا ما هيَ إلا سوقٌ للعملِ، والآخرةُ هيَ سوقُ الجزاءِ. كانَ قلبُهُ يتوقُ إلى بصيصِ نورٍ يُزيلُ غيمةَ الخوفِ التي خيّمتْ عليهِ.
في ليلةٍ هادئةٍ، حيثُ كانَ الهواءُ عليلاً والنجومُ ساطعةً، وبينما كانَ عادلٌ يتفقدُ المقبرةَ، لمحَ نوراً مختلفاً تماماً عنِ الأنوارِ السابقةِ. لمْ يكنْ وهجاً مُضطرباً أوْ نوراً باكياً، بلْ كانَ ضياءً هادئاً، يبعثُ السكينةَ في نفسِهِ، وكأنَّهُ ينبوعٌ منَ الطمأنينةِ يتدفقُ منْ الأرضِ. كانَ النورُ ينبعثُ منْ قبرٍ بسيطٍ في منتصفِ المقبرةِ.
اقتربَ عادلٌ بقلبٍ خاشعٍ، وهوَ يرددُ: "يا مُقلّبَ القلوبِ ثبّتْ قلبي على دينِكَ". فرأى روحَ رجلٍ بوجهٍ مُشرقٍ وهادئٍ، مُرتدياً ثياباً خضراءَ ناصعةً، وكانَ يبتسمُ ابتسامةً ملؤُها الرضى. هذهِ الروحُ كانتْ الأولى التي يجدُها مُستقرةً وسعيدةً بهذا الشكلِ.
سلّمَ عادلٌ، وقالَ بخشوعٍ: "يا عبدَ اللهِ، أسألُكَ بالذي أنعمَ عليكَ، ما هذهِ الطمأنينةُ التي أراها فيكَ؟"
أجابتِ الروحُ بصوتٍ عذبٍ كخريرِ الماءِ: "أهلاً بكَ يا حارسَ القبورِ، أنا فاضلٌ، وأنا الآنَ في نعيمِ الخلودِ بفضلِ اللهِ. في الدنيا، لمْ أكنْ غنياً بالمالِ، بلْ كنتُ رجلاً بسيطاً يعملُ بجدٍّ، لكنْ كلَّ ما كنتُ أملكُهُ هوَ قلبٌ مسامحٌ ويدٌ كريمةٌ."
بدأَ فاضلٌ يروي قصتَهُ، لا للتفاخرِ، بلْ للعظةِ: "لمْ يكنْ لي عملٌ كبيرٌ في الدنيا، سوى عملٍ واحدٍ كنتُ أُخفيهِ: كانَ جاري رجلاً فقيراً، عليهِ دَينٌ يُثقلُ كاهلَهُ ويُهددُ عائلتَهُ بالضياعِ. في كلِّ مرةٍ أتقاضى فيها راتبي، كنتُ أقتطعُ منهُ جزءاً، وأذهبُ ليلاً في الخفاءِ لأُسددَ عنه جزءاً منْ دَينِهِ دونَ أنْ يعلمَ منْ أنا، وأحياناً أخرى أضعُ المالَ في ظرفٍ وأدُسُّهُ منْ تحتِ عتبةِ بابِهمْ ليلاً ليجدوهُ في الصباحِ، وفعلتُ ذلكَ فقطْ أرجو رحمةَ ربِّي. وكنتُ إذا أغضبني أحدٌ منَ الناسِ، أُسارعُ إلى المسامحةِ، لئلا يبيتَ في قلبي ضغينةٌ على أحدٍ منَ البشرِ."
تنهدَ فاضلٌ براحةٍ، وقالَ: "عندما وُضِعْتُ في هذا القبرِ، لمْ أشعرْ بالوحدةِ، بلْ شعرتُ بالأنُسِ والسكينةِ الفوريةِ. لقدْ وجدتُ أنَّ كلَّ درهمٍ أنفقتُهُ سراً، وكلَّ دمعةٍ مسحتُها عنْ وجهِ يتيمٍ، وكلَّ إساءةٍ غفرتُها لوجهِ اللهِ، قدْ عادتْ إليَّ نوراً وفسحةً في قبري."
نظرَ فاضلٌ إلى عادلٍ بابتسامةٍ، وقالَ: "يا عادلُ، اذهبْ وأخبرِ الناسَ أنَّ الكنزَ ليسَ ما جمعوهُ، بلْ ما أنفقوهُ. وأنَّ القبرَ ليسَ نهايةً، بلْ هوَ استراحةُ المحاربِ الذي أخلصَ في عملِهِ. غنيمةُ الصالحينَ هيَ طمأنينةُ قلوبِهمْ في لحظةِ انتقالِهمْ."
اختفتِ الروحُ بنورِها الهادئِ، وبقيَ عادلٌ يبتسمُ للمرةِ الأولى منذُ لقائِهِمْ بالظالمِ. لقدْ عادتْ إليهِ طمأنينتُهُ، وأدركَ أنَّ الحكمةَ تكمنُ في التوازنِ: في الخوفِ منَ الظلمِ، وفي الرغبةِ الصادقةِ في فعلِ الخيرِ الخفيِّ.

تعليقات
إرسال تعليق