بقلم: ناصر بن محمد الحارثي
كانَ عادلٌ يمارسُ عملَهُ المعتادَ في المقبرةِ بعدَ طلوعِ الشمسِ، ولكنْ بقلبٍ مختلفٍ؛ قلبٍ يرى كلَّ قبرٍ ككتابٍ مفتوحٍ للحكمةِ. لقدْ ظلَّ عادلٌ حارساً مُنتبهاً لرسائلِ المقبرةِ الصامتةِ.
في ذلكَ اليومِ، لمْ يَرَ عادلٌ نوراً خافتاً ولا روحاً مُحلقةً، بلْ رأى مشهداً لمْ يكنْ يتوقعهُ: إنساناً حقيقياً. كانَ شاباً في مقتبلِ العمرِ، يرتدي ملابسَ أنيقةً، لكنَّ وجهَهُ كانَ مُشحباً بالهمِّ. كانَ يقفُ أمامَ قبرٍ حديثِ العهدِ، يُرجّحُ أنهُ قبرُ والدِهِ، ويبكي بكاءً شديداً ومُتقطعاً، ليسَ بكاءَ الفقدِ العاديِّ، بلْ بكاءَ الندمِ الذي يُحطّمُ الروحَ.
اقتربَ عادلٌ دونَ أنْ يُحدثَ صوتاً، واستمعَ لِما يقولُهُ الشابُّ بصوتٍ مُختنقٍ وهوَ يتحدثُ إلى القبرِ: "سامحْني يا أبي... يا ليتني لمْ أعصِ لكَ أمراً. لقدْ كنتُ الابنَ العاقَّ الذي لمْ يسمعِ النصيحةَ، واليومَ، القبرُ هوَ الذي يتكلمُ، لكنْ بصمتٍ قاتلٍ! لقدْ أهملتُكَ وظلمتُ نفسي وكلَّ منْ حولي، وتكبرتُ على نصيحتِكَ، فأنتَ لمْ تُقصرْ في تربيتي على الأخلاقِ الفاضلةِ، لكني كنتُ لا أنصتُ لِما تقولُ، واليومَ أنا نادمٌ أشدَّ الندمِ على ذلكَ... أنا الآنَ ضائعٌ، وكلُّ أموالي وقوتي لمْ تجلبْ ليَ الراحةَ التي حذّرتَني منْ ضياعِها."
لمْ يتحملْ عادلٌ أنْ يرى هذا الألمَ يُفني روحَ شابٍّ حيٍّ. اقتربَ منهُ بهدوءٍ، ووضعَ يدَهُ بحنانٍ على كتفِهِ، وقالَ بصوتٍ حكيمٍ وعميقٍ: "السلامُ عليكَ يا ولدي. الموتى هاهنا لا يحتاجونَ إلى دموعِكَ الآنَ، بقدرِ ما تحتاجُ أنتَ إلى أنْ تعيشَ بما يُرضيهِمْ ويرضي ربَّهمْ."
انتفضَ الشابُّ ونظرَ إلى عادلٍ بعينينِ مُحمرّتينِ، فقالَ عادلٌ: "في هذهِ الديارِ، يا ولدي، نتعلمُ كلَّ يومٍ خلاصةَ الحياةِ. تجربتي الطويلةُ كحارسٍ هنا، جعلتني أرى نهايةَ كلِّ طريقٍ قبلَ أنْ يسلكَهُ الناسُ. الأبُ الذي في هذا القبرِ، مثلهُ مثلُ كلِّ الآباءِ الصالحينَ، كانَ يُريدُ لكَ السعادةَ. وكنزُ الأبِ ليسَ مالاً، بلْ دعاءٌ خالصٌ منك بعدَ موتِهِ، وحياةٌ مستقيمةٌ."
نظرَ عادلٌ إلى القبرِ، ثمَّ إلى الشابِّ، وبدأَ يُلخّصُ لهُ دروسَ المقبرةِ بِحسٍّ مجرّدٍ: "أكثرُ القصصِ ألماً هنا يا ولدي، هيَ قصصُ الندمِ على الظلمِ والعقوقِ وضياعِ الحقوقِ... رأيتُ بأمِّ عيني مصيرَ منْ تركَ والديهِ، ورأيتُ مصيرَ منْ جمعَ المالَ بغيرِ وجهِ حقٍّ. لقدْ علمتني هذهِ الديارُ أنَّ أغنى أهلِها، هوَ فاضلٌ الذي كانتْ يداهُ كريمةً في الخفاءِ وقلبُهُ مسامحاً في العلنِ."
أكملَ عادلٌ بحزمٍ: "يا بنيَّ، لكيْ تجدَ الراحةَ، عليكَ أنْ تبدأَ حياتَكَ من جديدٍ، لا بالبكاءِ على الماضي، بلْ بالعملِ الصالحِ منْ أجلِهِ ومنْ أجلِ أبيكَ. ردَّ الحقوقَ التي ظلمتَ فيها الناسَ، سامحْ منْ أساءَ إليكَ، وابدأْ بـالصدقةِ الخفيةِ التي تُنيرُ لكَ ولأبيكَ هذا القبرَ، وادعُ لهُ في كلِّ صلاةٍ. هذا هوَ الكنزُ الذي يطلبُهُ كلُّ ميتٍ منْ ابنِهِ الحيِّ. حافظْ على صلواتِكَ في وقتِها في الجامعِ معَ المسلمينَ، ورافقِ الصالحينَ وجالسِ العلماءَ العارفينَ، وخذْ منْ علمِهمْ تنلْ رضى اللهِ ربِّ العالمينَ."
شعرَ الشابُّ وكأنَّ كلماتِ عادلٍ ليستْ مجردَ وعظٍ، بلْ هيَ خلاصةُ حِكَمِ السنينَ التي نطقَ بها حارسُ المقبرةِ بلسانِ تجربتِهِ الطويلةِ. توقفَ عنِ البكاءِ، ونظرَ إلى عادلٍ بعينينِ بدأَ فيهما نورُ الأملِ يسطعُ.
سألَ الشابُّ عادلًا: "يا حارسَ المقبرةِ الطيبَ، هلْ يغفرُ لي ربِّي ويغفرُ لي والدي؟"
أجابَ عادلٌ والابتسامةُ تملأُ وجهَهُ: "نعمْ يا بنيَّ إنْ شاءَ اللهُ، واعلمْ أنَّ مجيئكَ اليومَ إلى قبرِ والدِكَ لمْ يكنْ صدفةً، بلْ توفيقٌ منَ اللهِ لكَ أنْ تأتيَ وأكونُ أنا هنا لأنصحَكَ وأُرشدَكَ. فإنْ فعلتَ ما أخبرتُكَ بهِ، فإنْ شاءَ اللهِ سيغفرُ لكَ ربُّكَ، ولا تنسَ أنَّ رحمةَ ربِّكَ أوسعُ منْ كلِّ شيءٍ. ولا تنسَ قولَ اللهِ تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾."
ابتسمَ الشابُّ وكأنَّ جبلاً منَ الهمِّ قدْ أُزيحَ عنْ كاهلِهِ، واحتضنَ عادلًا وقبّلَ رأسَهُ وقالَ: "إنْ شاءَ اللهُ يا عمّ."
ودّعَ عادلٌ الشابَّ وقدْ ملأَ قلبَهُ السعادةُ أنِ استطاعَ أنْ يهديَ قلبَ شابٍّ وينقذَهُ منَ الضلالِ، وليزدادَ عادلٌ علماً وحكمةً منْ حِكَمِ حياةِ المقبرةِ.

تعليقات
إرسال تعليق