بقلم : فايل المطاعني
قصة عادل
كانوا هنا، بين حنايا القلب، يرسمون الوجه السعيد...
ورحلوا بين طرفي الشفاه، كأنهم ظلٌّ توارى من بعيد.
الفصل التاسع — «الاتصال»
لم يترك عادل وسيلةً ولا طريقًا إلا وطرقها؛ سعى بكل ما أوتي من حيلة ليكسب موافقة والدته على زواجه من أمل.
وبعد أن أدرك أنّ لا طريق يجبرها على الموافقة، ولا سبيل لإلغاء شرطها التعجيزي، قرّر أن يذهب إليها في محاولةٍ أخيرة.
فإن لم توافق، فسيتزوج أمل دون رضاها؛ لم تعد في يده حيلة، وهو يخشى أن يتسرّب حلمه من بين أنامله كما يتسرب الرمل بين الأصابع.
دخل عادل على والدته خديجة في صالونها الأرضي، فوجدها تحدّق في المرآة بصمتٍ ثقيل، كأنها تُحاكم وجهها على ما مضى من العمر.
كانت تهمس لنفسها بندمٍ دفين:
“تزوجت سالم صغيرة، وأنجبت وأنا لا زلت صغيرة... لكن أحدًا لم يعرف كيف يحتوي أنوثتي أو يسمع صوتي. أبي رفض راشد حين تقدّم لي لأنه لم يكن غنيًا، وقال كلمته التي جرحتني: عندك قرش تسوى قرش، ما عندك شي ما تسوى شي.
وها أنا اليوم أجني ثمار ذلك القرار، فقد تزوّجت رجلاً أكبر منّي، لا يعرف للحنان طريقًا. والله لو كنتُ زوجة راشد، لكانت أمل اليوم ابنتي... لا ابنة امرأةٍ أخرى تُثير غيرتي كلما ذُكرت.”
تنهّدت بمرارةٍ وهي تتمتم مثل من يعيد أسطوانة الأسى:
“يا واخد القرد على ماله... يروح المال ويبقى القرد على حاله.”
قطع صوت عادل شرودها:
– أمي... أمي.
التفتت إليه ببطء وقالت: “نعم، يا ولدي، تبي شي؟”
قال متوسلاً:
– يا أمي، أرجوكِ وافقي على زواجي من أمل، لا تتركيني أعيش التعاسة. أنتِ تعرفين أني ما أحببت سواها.
نظرت إليه بعينين تحملان مزيجًا من الحيرة والوجع، ثم قالت لتُرهقه أكثر:
– طيب يا ولدي، أنا موافقة... لكن بشرط.
تعلّق قلبه بين أضلعه، وكأن أنفاسه تجمدت انتظارًا لما ستقوله.
قالت ببطءٍ محسوب:
– أمها ما تحضر العرس. تكون في بيتها. ما أريد أشوفها في القاعة. خَلِّ عمتها تحضر بدلها، عمتها بنت أصل وفصل، الواحد يفتخر بها. اللي يحضر العرس أهلها من جهة والدها فقط... مفهوم؟
غادر عادل الصالون بخطواتٍ مترددة، بين ألمه وأمله.
قال في نفسه: “على الأقل اقتنعت بفكرة الزواج... والآن يبقى إقناع أمل. أكيد راح توافق، هي تحبني وما رفضت لي طلبًا من قبل. أمل في جيبي الصغير، ما بتخذلني.”
أمسك هاتفه واتصل بها، لكن الخط كان مغلقًا.
أعاد المحاولة... مرةً واثنتين وثلاثًا، ولا جواب.
بدأ القلق يسري في عروقه مثل نارٍ هادئة، فكتب لها رسالة:
“يا آخر مرافئ العمر... وينك؟ اتصلت وما رديتِ، عسى المانع خير. اتصلي ضروري.”
وفي الوقت الذي كان الأمل يترجّى عند قدمي أمّه، كانت أمل تحاول إقناع قلبها أن يصمت.
الساعة السابعة مساءً
بدأ الضيوف يتوافدون على بيت والدها راشد، والأصوات تتعالى بين الترحيب والهمس.
أما أمل، فكانت متوترةً على غير عادتها، تشعر أن شيئًا كبيرًا يحدث دون إرادتها.
لم تعرف لماذا أغلقت هاتفها تلك الليلة — ربما خوفًا على مشاعر عادل، أو هروبًا من مواجهة صوتٍ تعرف أنه سيكسرها.
قالت في نفسها:
“سأغلق الهاتف... وحين تنتهي هذه المسرحية الصغيرة، أفتحه وكأن شيئًا لم يكن.”
كانت عائشة، ابنة خالتها، تراقبها بعينٍ خبيرة، ثم اقتربت منها قائلةً بمرحٍ يخفي حكمةً دفينة:
– أمل، الحريم يبون غزالة، قومي نجهزها لهم، لا تعتمدين على الخدم كثير، شفتِ أم المعري كيف تنظر لك من راسك لريولك؟ نظرة خبرة، ما تخطئ! وأخته من الحين أقولك، ديري بالك، تراه بيتكم وبنكون مع بعض... فهمتيني؟
ضحكت أمل من مزاحها وقالت:
– عواش! والله ما أعرف شو أقول عنك، من وين تعرفين هالسوالف؟
ضحكت عائشة وهي تضمها:
– من البنات المتزوجات، يخبروني بكل شي.
ثم صمتت لحظة، لتتكلم بجديةٍ لم تعهدها أمل من قبل:
– أهم شيء، لا تسمحي لأحد أن يسرق عقلك أو يتحكم فيك. مهما بلغ حبك لعادل، لا تضحّي عشان أحد. لأن ببساطة... ما في رجل يستحق أن نضيع عمرنا عشانه.
نظرت أمل إليها بدهشةٍ صامتة، فقالت عائشة وهي تربت على كتفها:
– إذا جاء وخطبك على الرحب والسعة، ما جاء؟ ارمي جِحْلتك عند باب بيتهم وقولي: درب السلامة.
(جِحلة: آنية فخارية للشرب.)
في تلك الليلة، كان القدر يكتب على الطرفين درسين مختلفين في دفترٍ واحد:
أنّ الحب وحده لا يصنع المصير، وأنّ التضحية إن لم تجد من يقدّرها، تتحوّل إلى وجعٍ بلا صوت.
وكم من حلمٍ خُنق في منتصف الطريق،
لا لذنبٍ... إلا لأنّ القلوب لا تتشابه، وإن تشابهت الأسماء.

تعليقات
إرسال تعليق