ثروت أباظة.. فارس الأدب والسياسة في مصر

 


في سجل الأدب العربي الحديث، يسطع اسم ثروت أباظة كأحد أبرز الكتّاب الذين جمعوا بين الأدب والسياسة، وبين القلم والموقف.

فهو الأديب الذي كتب بالوجدان، والسياسي الذي ظلّ وفيًّا لمبادئه حتى النهاية. امتاز أدبه بالواقعية الاجتماعية والصدق النفسي، وبقيت أعماله شاهدة على عصرٍ كامل من التحولات الفكرية والسياسية في مصر.

النشأة والبدايات

وُلد ثروت أباظة في 15 يونيو عام 1927 بمحافظة الشرقية في مصر، في عائلة أباظة الشهيرة، وهي من أعرق العائلات المصرية ذات التاريخ الطويل في السياسة والأدب.

تلقى تعليمه في القاهرة، وحصل على ليسانس الحقوق من جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليًا) عام 1949، ثم انخرط في مجال المحاماة لفترة قصيرة قبل أن يتفرغ للأدب والعمل العام.

منذ شبابه المبكر، كانت الكتابة بالنسبة له أكثر من هواية؛ كانت وسيلة لفهم المجتمع والتعبير عن قضاياه. فبدأ بنشر مقالاته في الصحف والمجلات الأدبية، حتى ذاع صيته ككاتب يمتلك أسلوبًا راقيًا ولغةً عذبة ومواقف إنسانية واضحة.

مسيرته الأدبية

يُعد ثروت أباظة من أكثر الأدباء إنتاجًا في القرن العشرين، فقد كتب الرواية والقصة القصيرة والمسرحية والمقال، إلى جانب مساهماته في النقد الأدبي والصحافة.

ومن أبرز ما يميز أدبه أنه جمع بين الواقعية والرومانسية، وتناول قضايا المجتمع المصري بعمق إنساني، مركزًا على الطبقة الوسطى والصراعات بين القيم القديمة والجديدة.

كما كان أدبه يعكس إيمانه بالوطن والإنسان، فهو لا يكتب عن الإنسان في عزلة، بل يضعه دائمًا في قلب المجتمع وصراعاته.

أشهر أعماله الأدبية

قدّم ثروت أباظة مجموعة واسعة من الأعمال التي تُعد من كلاسيكيات الأدب المصري الحديث، ومن أهمها:

في الرواية:

هؤلاء علموني الحب – رواية اجتماعية رقيقة تصوّر العلاقات الإنسانية والبحث عن النقاء.

شيء من الخوف – واحدة من أشهر رواياته، تحولت إلى فيلم شهير من بطولة محمود مرسي وشادية، وتُعد من علامات السينما المصرية لما تحمله من رمزية سياسية عميقة ضد الظلم والاستبداد.

العمر لحظة – رواية إنسانية تناولت الحرب والسلام، وتم تحويلها أيضًا إلى فيلم سينمائي.

قيد الدموع – تعالج الصراع الداخلي بين العاطفة والواجب.

الغفران – من رواياته التي تمزج بين البعد الأخلاقي والنفسي.

في القصة القصيرة والمسرح:

كتب العديد من المجموعات القصصية التي تعكس ملامح المجتمع المصري، منها:

ليالي العذاب

عودة الغائب

الوسادة الخالية

كما كتب عدة مسرحيات تُظهر رؤيته الفلسفية والسياسية للإنسان والمجتمع.

أسلوبه الأدبي

امتاز أسلوب ثروت أباظة بالبساطة الراقية، والقدرة على النفاذ إلى أعماق النفس البشرية دون تعقيد لغوي.

كان يؤمن بأن الأدب رسالة قبل أن يكون فناً، لذلك نجد في معظم أعماله نزعة أخلاقية واضحة، ودعوة للخير والحق والعدل.


كما يجيد رسم الشخصيات الواقعية بحرفية، فتبدو أبطاله مألوفين للقارئ، يعيشون بين الناس لا في الخيال.

واهتمّ أيضًا بتصوير المرأة المصرية تصويرًا راقيًا، مقدّمًا لها أدوارًا محورية تعبّر عن قوتها وكرامتها.

رمزية رواية "شيء من الخوف" وتحليل أسلوبه الأدبي


تُعد رواية "شيء من الخوف" من أعظم ما كتب ثروت أباظة، ليس فقط لجمالها الفني، بل لما حملته من رموز سياسية عميقة عبّرت عن فترة حساسة في تاريخ مصر.

فعلى الرغم من أن الرواية تدور في قرية صغيرة يحكمها رجلٌ جائر يُدعى عتريس، فإنها في جوهرها كانت صرخة ضد الطغيان والفساد، وصورة رمزية لأي سلطة تسلب إرادة الناس وتخيفهم باسم القوة.

تدور أحداث الرواية حول عتريس الذي فرض سيطرته على القرية بالقهر، وفؤادة التي تمثل رمز النقاء والمقاومة والصوت الحر.

حين يهتف أهل القرية في النهاية "فؤادة ليست حرام"، يصبح هذا الهتاف رمزًا لتحرر الناس من الخوف، ورفضهم للطغيان، وهو ما جعل الرواية تُقرأ كاستعارة فنية عن كسر حاجز الخوف السياسي والاجتماعي.


أما أسلوب ثروت أباظة الأدبي في هذه الرواية، فهو مزيج من الواقعية الشعرية والرمزية الهادفة.

فهو لا يصف الأحداث وصفًا مباشرًا، بل يجعل القارئ يعيشها، مستعملًا لغة مشحونة بالعاطفة والتصوير البصري، مع جمل قصيرة مكثفة تترك أثرًا عميقًا.

وفي الوقت نفسه، يوازن بين الجمال الفني والرسالة الإنسانية، دون أن يفقد النص تماسكه أو واقعيته.


ومن أبرز سمات أسلوبه في الرواية:

الرمزية الذكية: حيث يرمز "عتريس" للطغيان، و"فؤادة" للحرية، والقرية للمجتمع.


اللغة الوجدانية: لغة صافية تجمع بين فصاحة الأدب العربي وبساطة التعبير الشعبي.


التحليل النفسي: يرسم الصراع الداخلي لشخصياته بدقة، خصوصًا شخصية "فؤادة" التي تجمع بين الخوف والشجاعة.


الواقعية الممزوجة بالحلم: فهو يُدخل القارئ في عالم يبدو واقعيًا لكنه يحمل دلالات أعمق من ظاهر الأحداث.

لقد استطاع ثروت أباظة من خلال "شيء من الخوف" أن يُحوّل الأدب إلى موقف وطني، وأن يجعل من الرواية أداة للوعي الشعبي، وهذا ما منح أعماله الخلود في وجدان القارئ المصري والعربي.

ثروت أباظة بين جيله من الأدباء: نجيب محفوظ ويوسف إدريس نموذجًا

في زمنٍ ازدهر فيه الأدب المصري بقممٍ مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم، برز ثروت أباظة كصوتٍ أدبي مميز يحمل نغمة مختلفة.

فبينما اتجه نجيب محفوظ إلى الواقعية الفلسفية والتحليل الاجتماعي العميق، واهتم يوسف إدريس بـ الواقعية النفسية والتعبير الشعبي، اختار ثروت أباظة أن يجمع بين الواقعية الأخلاقية والرومانسية الوجدانية.


كان يرى أن الأدب يجب أن يبني الإنسان قبل أن يصفه، وأن الكاتب لا بد أن يكون صاحب موقف أخلاقي قبل أن يكون صاحب خيال أدبي.

ومن هنا جاءت أعماله مشبعة بالقيم، تُدافع عن العدالة والحب والإنسانية، دون أن تقع في المباشرة أو الخطابية.


يختلف ثروت أباظة عن نجيب محفوظ في أنه لم يغُص كثيرًا في الفلسفة الوجودية أو التحليل الرمزي العميق، بل ركّز على القيمة الإنسانية البسيطة التي يفهمها كل قارئ، ما جعل أعماله أقرب إلى القلب وأوسع انتشارًا بين فئات المجتمع المختلفة.

أما مع يوسف إدريس، فقد التقى معه في الاهتمام بالإنسان البسيط، لكنه ابتعد عن الحدة أو الصدام، مفضلًا الأسلوب الهادئ الذي يُقنع ولا يهاجم.


وبذلك استطاع ثروت أباظة أن يحفر لنفسه مدرسة خاصة في الأدب المصري، مدرسة تجمع بين العاطفة والعقل، بين الفن والرسالة، وبين النبل الأخلاقي والعمق الإنساني.

فهو لم يكن مجرد كاتبٍ يعيش بين الكتّاب، بل كان ضميرًا للأدب المصري في زمنٍ كانت فيه الكلمة تصنع الوعي.

في ميدان السياسة والإعلام


لم يكن ثروت أباظة أديبًا فقط، بل كان أيضًا سياسيًا بارزًا وصاحب رأي جريء.

شغل عدة مناصب، من أبرزها:


عضو مجلس الشورى.


رئيس لجنة الثقافة والإعلام بالمجلس.


نقيب الكتّاب المصريين لسنوات طويلة.


كما كتب مقالات سياسية وفكرية أسبوعية في الصحف الكبرى مثل الأهرام والأخبار.

كان يؤمن بأن المثقف لا يجوز أن يعيش في برجٍ عاجي، بل يجب أن يكون شاهدًا على عصره ومشاركًا في قضاياه

الجوائز والتكريم

نال ثروت أباظة العديد من الجوائز تقديرًا لعطائه الأدبي والفكري، منها:

جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1982.

وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى.

كما كرّمته العديد من المؤسسات الثقافية داخل مصر وخارجها.

لماذا نقرأ ثروت أباظة اليوم؟

نقرأ ثروت أباظة اليوم لأن أدبه لا يشيخ، ولأن كلماته ما زالت تحمل قيمة الصدق والإنسانية في زمنٍ تغيّر فيه كل شيء إلا جوهر الإنسان.

كتبه تُذكّرنا بأن الأدب يمكن أن يكون رسالة حب ووعي في آنٍ واحد، وأن الكلمة الصادقة لا تموت مهما مرّت الأعوام.

هو كاتبٌ يعلّمنا أن الجمال لا ينفصل عن الأخلاق، وأن الفن الحقّ لا يُكتب إلا بحبر القلب.


كان ثروت أباظة أديبًا ذا رسالة، حمل قلمه دفاعًا عن الإنسان، وسعى إلى أن يكون الأدب مرآةً للضمير الجمعي للمجتمع المصري.

ترك وراءه إرثًا أدبيًا خالدًا يربط بين الأصالة والتجديد، بين العاطفة والعقل، وبين الفن والالتزام الأخلاقي.

إنه حقًّا واحد من فرسان الكلمة الذين أضاءوا درب الأدب العربي في القرن العشرين، ولا يزال نوره ممتدًا في ذاكرة القراء ومحبي الأدب حتى اليوم.


تعليقات