بقلم / هناء درويش
يبدو أن الإنسان، في جوهره، كائن يسعى إلى الخلود لا ببدنه، بل بما يتركه من أثر في الوعي الجمعي. هذا الأثر هو ما يمكن أن نسميه الإرث المعرفي والوجودي: ذلك الامتداد الخفي الذي يربط الإنسان بما بعده، ويمنحه معنى في مواجهة العدم.
الإرث المعرفي هو ذاكرة الفكر الإنساني، ذلك النهر العميق الذي يجري من سقراط إلى آخر باحث يسأل “لماذا؟”. إنه ليس تراكمًا للمفاهيم، بل استمرار للحوار الأبدي بين العقل والوجود. فالمعرفة لا تورّث كشيء مادي، بل كوميض يُشعل رغبة السؤال في من يأتي بعدنا. كل فكرة كبرى هي شعلة تُسلَّم من عقلٍ إلى آخر، كي لا ينطفئ نور الوعي وسط ظلام العادة والتكرار.
أما الإرث الوجودي، فهو الوجه الآخر لهذا الامتداد وجه التجربة والمعاناة والتأمل في المعنى. إنه ما يتركه الإنسان حين يعيش بصدق، حين يواجه أسئلته دون هروب، وحين يجعل من حياته بحثًا مستمرًا عن الحقيقة. الإرث الوجودي ليس في الكتب فحسب، بل في المواقف، في الصمت، في الطريقة التي نحيا بها حين نعرف أننا زائلون ومع ذلك نختار أن نزرع فكرة أو نضيء دربًا.
إن العلاقة بين المعرفة والوجود هي علاقة بين “الفكر” و”الكينونة”، كما أشار هايدغر. فالمعرفة التي لا تتجذر في تجربة الوجود تظل سطحية، والوجود الذي لا يتغذى من المعرفة يظل ناقصًا، معلقًا في العدم. لذلك فإن الإرث الحقيقي هو ذاك الذي يوحّد بين الاثنين: فكرٌ يعبّر عن الحياة، وحياةٌ تمنح الفكر معنى.
في كل عصر، يولد من يعيد طرح السؤال القديم: “من نحن؟ ولماذا نعرف؟”. وتلك هي لحظة التجدد التي تحمي الإرث من التكلس. فليس الهدف أن نحفظ ما تركه السابقون، بل أن نحاوره، أن نجعله يعيش في وعينا، أن نضيف إليه رؤيتنا الخاصة للعالم. فالمعرفة التي لا تُختبر وجوديًا تتحول إلى محفوظات، والوجود الذي لا يُستنار بالمعرفة يصبح تيهًا بلا بوصلة.
إن الإرث المعرفي والوجودي هو الجسر بين الكينونة والزمن. هو محاولة الإنسان أن يجيب على سؤال البقاء في عالمٍ يتغيّر، وأن يقول للعالم: “كنت هنا، وفكّرت، وشعرت، وسألت، ومررت من هذا الوجود تاركًا أثرًا صغيرًا يشهد أنني لم أعش عبثًا.”
.jpeg)
تعليقات
إرسال تعليق