​حارس المقبرة ​الفصل الرابع: ثمن الندم

 بقلم : بقلم: ناصر بن محمد الحارثي 


​عادَ عادلٌ إلى المنزلِ، وبيدهِ القطعةُ الذهبيةُ التي أهداها لهُ سليمٌ. كانتْ تلكَ الليلةُ لا تزالُ محفورةً في ذاكرتِهِ، تساؤلاتٌ لا تُحصى تدورُ في رأسِهِ: هلْ ما حدثَ كانَ حلماً عابراً، أمْ حقيقةً قاسيةً؟ لكنَّ لمسَ الذهبِ الباردِ بينَ أصابعهِ أيقظَهُ من حيرتهِ. لمْ يكنْ حلماً، بلْ واقعاً جديداً عليهِ أن يتعايشَ معهُ.

​خبّأَ عادلٌ القطعةَ الذهبيةَ بعنايةٍ، بانتظارِ عودةِ والدهِ من الحجِّ ليروي لهُ ما حدثَ. استعدَّ لليلةِ التاليةِ في المقبرةِ، وهذهِ المرةَ، لمْ يكنْ الخوفُ وحدَهُ ما يحركُهُ، بلْ فضولٌ عميقٌ ورغبةٌ في اتباعِ وصيةِ والدهِ. زارَ القبورَ، ألقى السلامَ عليها، وسكبَ الماءَ على بعضِها كما علّمهُ أبوهُ، ثمَّ عادَ إلى غرفتِهِ ليستريحَ.

​بينما هوَ يسيرُ في الممراتِ الترابيةِ المظلمةِ، سمعَ صوتاً ينادي: "يا ابنَ الشيخِ، تعالَ..." كانَ صوتاً حكيماً، يحملُ نبرةً من الحزنِ العميقِ، لكنَّ فيهِ أيضاً دفئاً غامضاً يدعوهُ للاستكشاف. نظرَ عادلٌ خلفَهُ، لمْ يرَ شيئاً في الظلامِ الكثيفِ الذي يلتفُّ حولَ شواهدِ القبورِ. تبعَ الصوتَ الذي كانَ يرشدهُ، حتى وصلَ إلى قبرٍ مهجورٍ لا يحملُ أيَّ شاهدٍ أو ضريحٍ، كأنهُ منسّيٌ من الزمنِ ومن الأحياء.

​هنا، انبعثَ نورٌ خافتٌ من باطنِ القبرِ، بدأَ يتصاعدُ ببطءٍ، ويتشكّلُ منهُ رجلٌ عجوزٌ ذو لحيةٍ بيضاءَ نقيةٍ، يرتدي رداءً أبيضَ ناصعاً يكادُ يضيءُ ظلمةَ الليلِ. توقّفَ عادلٌ عن السيرِ، تجمّدَ في مكانِهِ، لكنَّ نورَ الشيخِ بثَّ فيهِ بعضَ الطمأنينةِ. سلمَ عليهِ عادلٌ بترددٍ: "من أنتَ يا شيخ؟ أمنَ الجنِّ أمْ منَ الإنسِ؟"

​ردَّ الشيخُ بصوتٍ وقورٍ: "بلْ أنا من أهلِ القبورِ، وأنا هنا منذُ أكثرَ من خمسينَ عاماً."

​اقتربَ عادلٌ منهُ، وقدْ غلبَهُ الفضولُ على الخوفِ، وقالَ: "أتَعرِفُني يا شيخ؟"

​ابتسمَ الشيخُ بوهجٍ، وقالَ: "بلْ أعرفُ والدَكَ الشيخَ الذي طالما زارني وحدثني عنكَ. وكنتُ في شوقٍ للقائكَ."

​ردَّ عليهِ عادلٌ، وهوَ يشعرُ بنوعٍ من الارتياحِ لهذهِ الألفةِ غيرِ المتوقعة: "تفضلْ يا شيخ، كيفَ لي أنْ أساعدَكَ؟"

​تنهّدَ الشيخُ تنهيدةً عميقةً ملؤها الندمُ، وبدأَ يقصُّ حكايتهُ: "لقدْ كنتُ من أوائلِ منْ عاشَ في هذهِ المدينةِ قبلَ أنْ تزدهرَ. بنيتُ مملكتي هنا من التجارةِ، وكانَ لي من الأموالِ الشيءُ الكثيرُ، ومن الأبناءِ والبناتِ والزوجاتِ أيضاً. عشنا كلُّنا في بذخٍ ورخاءٍ إلى أنْ مرضتُ بعدَ أنْ كبرتُ في السنِّ. وتصارعَ أبنائي معَ إخوتِهم على الميراثِ حتى قبلَ مماتي. وعندما فارقتُ الدنيا، ندمتُ أشدَّ الندمِ لما لمْ أقسمِ المالَ بينهم ولمْ أتركْ وصيةً لهم. فانشغلَ أبنائي بالمالِ، ونسوني وتركُوني في هذهِ الحفرةِ دونَ أنْ يزورني أحدٌ منهم، ونسوا حبي وتعبي طوالَ حياتي التي قضيتها من أجلِهم. بقيتُ وحيداً دونَ جليسٍ ولا ونيسٍ."

​"ولولا الصدقاتُ التي كنتُ أتصدقُ بها على الفقراءِ والزكاةُ من أموالي، لكانَ حالي أسوأَ مما أنا عليهِ الآنَ. فهي التي نفعتني اليومَ. وما شوقي إلا للصالحينَ، وحزني على أبنائي الذينَ آثروا المالَ والجاهَ على الأخوةِ والمودةِ وفعلِ الخيرِ للناسِ."

​حزنَ عادلٌ لحالِ العجوزِ المسكينِ، ودمعتْ عيناهُ. قالَ لهُ: "لا تحزنْ يا عم، لقدْ أحسنتَ إلى نفسكَ في الدنيا، وسيكافئكَ اللهُ في الآخرةِ إنْ شاءَ اللهُ. وأنا بدوري لنْ أقطعَكَ، وسأزوركَ دائماً."

​وما إنْ انتهى عادلٌ من كلماتهِ حتى اختفى الشيخُ الطيبُ في النورِ الذي جاءَ منهُ. وعلى الفورِ، لمحَ عادلٌ قطعةً ذهبيةً تلمعُ على ترابِ القبرِ المهجورِ، كأنها هديةٌ من الشيخِ عرفاناً وشكراً.

​أخذَ عادلٌ القطعةَ الذهبيةَ، وشعرَ بثقلِها الباردِ في كفهِ. لمْ تكنْ مجردَ قطعةِ ذهبٍ، بلْ كانتْ تحملُ رسالةً. رسالةً عن قيمةِ العملِ الصالحِ، وعن أنَّ ثروةَ والدهِ لمْ تكنْ كنزاً مدفوناً، بلْ كانتْ حصاداً لعطاءٍ لا ينضبُ لأرواحٍ معذبةٍ. عادَ إلى غرفتهِ وهوَ يشكرُ اللهَ تعالى على ما أنعمَ عليهِ من النعمِ، وسألَ اللهَ أن يُديمَ عليهم المحبةَ والمودةَ والألفةَ فيما بينهم، ونامَ عادلٌ نومةً هانئةً إلى أنْ جاءَ الصباحُ وعادَ إلى البيتِ، وهوَ يدركُ أنَّ كلَّ ليلةٍ في المقبرةِ تحملُ لهُ درساً جديداً... وكنزاً لا يُقدَّرُ بثمن.

تعليقات