بقلم : خليفة سالم الغافري
الحياة لا تُدرك من الكتب وحدها، ولا تختزل في لحظات الفرح أو ومضات النجاح العابر. لفهمها على حقيقتها، لا بد من خوض دهاليزها الموجعة، ومواجهة وجوهها التي نتجنب النظر إليها كثيرًا. وقد قيل: «لمن أراد أن يفهم الحياة جيدًا، عليه أن يزور ثلاثة أماكن: المستشفى، والسجن، والمقبرة»، وهي مقولة تختصر دروسًا بالغة العمق.
في المستشفى، تتلاشى الفوارق بين الناس، وتذوب الألقاب والوجاهات، إذ يكفي المرض ليجرّد الإنسان من مظاهر قوته الزائفة. هناك، تتجاور قصص لم تُكتب بعد، ودموع لا تجد من يمسحها، وانتظار ثقيل قد يُغيّر مصائر بأكملها. ومن قلب هذه التجربة، ندرك أن الصحة أعظم النِعم، وأن متعة الحياة لا تقتصر على ما يُمنح لنا من خير ظاهر، بل تشمل ما نملكه من صحة وأبناء، وتكتمل بنعمة الشكر على كل ذلك.
أما السجن، فليس مجرد قضبان تُقيّد الجسد، بل هو مرآة تعكس وجهًا آخر للحياة. فيه يعيش البعض ثمن خياراتهم، أو قسوة ظروفهم، وربما ظلمًا جائرًا وقع عليهم. هناك، تتجلى الحرية كجوهر لا غنى عنه، وكروح لا تكتمل الحياة دونها. ومن خلف الأسوار، نتعلم أن الأحكام لا تُبنى دومًا على ظاهر الأمور، وأن وراء كل إنسان حكاية قد تستحق فرصة جديدة.
وفي المقبرة، تسكن النهاية الكبرى، حيث يخيم السكون ويعلو الخشوع. هناك، يتلاشى الصخب وتبقى الحقيقة الوحيدة: كل ما نركض خلفه إلى زوال، وما يظل خالدًا هو الأثر الطيب، والذكر الحسن، والدعوات الصادقة. المقبرة تذكّرنا بأن المصير واحد، وأن ما بين الميلاد والرحيل ليس سوى رحلة قصيرة ينبغي أن تُعاش بوعي ومعنى.
ليست هذه الأماكن دعوة للحزن بقدر ما هي نوافذ للتأمل، ودروس تفتح لنا أبواب الفهم الأعمق للحياة. فمن خلالها نتعلم أن الوقت أثمن مما نتصور، وأن التسامح قوة لا ضعف، وأن الصحة والحرية ليستا من المسلّمات. وعند إدراك ذلك، فقط تبدأ الحياة في الكشف عن معناها الحقيقي.
تعليقات
إرسال تعليق