​حارس المقبرة ​الفصل العشرون: كنزُ البِرِّ

بقلم: ناصر بن محمد الحارثي 


​بعدَ لقائِه الأخيرِ بالشابِّ النادمِ، عاشَ عادلٌ فرحةً لمْ يعهدْها منْ قبلُ. كانَ يشعرُ أنَّهُ قدْ أثمرَ أخيراً، وأنَّ حراستَهُ للمقبرةِ لمْ تعدْ مجردَ مهمةٍ، بلْ هيَ أمانةٌ في هدايةِ الأحياءِ. كانتْ تلكَ الفرحةُ بحدِّ ذاتِها أعظمَ كنزٍ.

​في مساءٍ جميلٍ بعدَ أسبوعٍ منْ تلكَ الليلةِ، وبينما كانَ عادلٌ يستعدُ للراحةِ بعدَ عملِ يومٍ طويلٍ في المقبرةِ، غمرَ المكانَ ضياءٌ ذهبيٌّ هادئٌ ودافئٌ. لمْ يكنْ وهجاً حزيناً ولا نوراً صاعداً، بلْ كانَ كضوءِ الشمسِ عندَ الأصيلِ، يُغطي القبرَ الذي زارَهُ الشابُّ.

​اقتربَ عادلٌ ورأى روحَ الأبِ، ولكنْ هذهِ المرةَ بوجهٍ مُشرقٍ تتلألأُ عليهِ علاماتُ الرضى والسعادةِ الأبديةِ. كانتِ الروحُ تستقبلُ عادلًا بابتسامةٍ حانيةٍ لمْ يرَ مثلَها على أيِّ روحٍ منْ قبلُ.

​تحدثتِ الروحُ بصوتٍ مليءٍ بالسلامِ: "مرحباً بكَ يا عادلُ، يا حارسَ القلوبِ قبلَ القبورِ. لقدْ جئتُ لأشكرَكَ على صنيعِكَ. كلماتُكَ التي زرعتَها في قلبِ ابني، أيقظتْ فيهِ ندمَهُ الصادقَ، وبمجردِ أنْ بدأَ في ردِّ الحقوقِ والصدقةِ الخفيةِ والدعاءِ لي، شعرتُ بالأنُسِ والفسحةِ في قبري. لقدْ كنتَ أنتَ الوسيلةَ التي سخّرَها اللهُ لبرِّ ابني بي بعدَ موتي وصلاحِ قلبِهِ ورجوعِهِ إلى ربِّهِ."

​سألَهُ عادلٌ، وعيناهُ تلمعانِ بالسعادةِ: "الحمدُ للهِ، هذا هوَ جزاءُ عملي الذي أرجوهُ."

​نظرتِ الروحُ إلى عادلٍ، ومدّتْ يدَها، وكأنَّها تُقدّمُ لهُ شيئاً ثميناً غيرَ مرئيٍّ: "يا عادلُ، أنتَ لا تطلبُ كنزاً منَ الدنيا، ولكنْ عملُكَ يستحقُّ أثمنَ الكنوزِ. خذْ هذهِ النفحةَ منْ كنوزِ الآخرةِ الذهبيةِ، ليسَ لتُغنيَكَ في دنياكَ، بلْ لتكونَ دليلاً على أنَّ كلَّ خطوةٍ تخطوها في هدايةِ الناسِ هيَ كنزٌ باقٍ لا يفنى، وأنَّ أعظمَ الذهبِ هوَ الأثرُ الطيبُ."

​ثمَّ انتقلتِ الروحُ إلى وصيتِها الأخيرةِ، وقالتْ بعمقٍ: "يا عادلُ، خذْ رسالةً مني إلى الأحياءِ، وتحديداً إلى الآباءِ والأمهاتِ: أخبرْهمْ أنْ لا يكتفوا بتربيةِ الأجسادِ وتعليمِ العقولِ فحسبْ، بلْ عليهمْ أنْ يهتموا بالقلوبِ أيضاً، وأنْ يُصاحبوا أبناءَهمْ في الدنيا، وأنْ يزرعوا فيهمْ قيمةَ الرحمةِ والشفقةِ والإنسانيةِ قبلَ القوةِ، وأنْ يهتموا بـالتربيةِ على الالتزامِ الدينيِّ ورفقةِ الصالحينَ، لكيْ لا يجدوا أنفسَهمْ وحيدينَ في القبرِ، في انتظارِ ندمٍ قدْ يأتي أوْ لا يأتي. فصلاحُ الابنِ في حياتِكَ، هوَ أمانٌ لكَ بعدَ موتِكَ." ثمَّ سألتِ الروحُ: "وكما علمتُ أنَّ منَ الأمورِ التي تنفعُ الميتَ بعدَ موتِهِ هوَ ولدٌ صالحٌ يدعو لهُ، كمَا أخبرنا بذلكَ نبيُّنا محمدٌ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ، أليسَ كذلكَ؟"

​أجابَ عادلٌ وهوَ يهزُّ برأسِهِ: "نعمْ يا عمِّ، لقدْ صدقتَ في كلِّ ما قلتَ."

​اختفتِ الروحُ في النورِ الذهبيِّ الهادئِ، وبقيَ عادلٌ واقفاً، يشعرُ بدفءِ الهديةِ الروحيةِ، وأنَّ مهمتَهُ قدْ اكتملتْ في هذهِ القضيةِ. أدركَ أنَّ كنزَ البِرِّ هوَ أعظمُ وأبقى منْ كنوزِ المالِ، وأنَّ غنيمةَ الأبِ هيَ هدايةُ قلبِ ابنِهِ.

تعليقات