بقلم: حسين الشرقي
أصرخ داخلي
صرخةٌ لا يسمعها أحد
صرخةٌ تُمزّقُ روحي بلا رحمة
صرخةٌ تُشبه السكين حين ينغرس في ماءٍ ساكن
فلا ينشقُّ الماء ولا يتناثر، بل يبقى ساكنًا يبتلع الألم.
أختارُ الصمت، أختار النجاة
أختار حياةً لا تُشبهني
أختار الفرار على حساب كل ما كنت
على حساب كلّ ما أحببت
على حساب كلّ ما بقي مني في الذكريات.
كلّ صورةٍ في عقلي
كلّ ضحكةٍ انبثقتْ من فمي
كلّ كلمةٍ كانت دافئة
أصبحت الآن حملاً ثقيلاً على صدري
كأني أحمل مقابر صغيرةً على ظهري
كأني أمشي داخل نفسي بين شواهدها المنكسرة.
أُسابقُ الريح كي أهرب من نفسي
كي أغادرَ الماضي قبل أن يغادرني
لكنّ الماضي لا يخرجُ منّي
الذكريات تتشبّثُ بي كما تتشبّثُ الوحوشُ بجسدٍ حيّ
كأنها جائعةٌ لا تعرف الرحمة
كأنها تسكنُ قلبي لأنها فقدت حضنها في زمانها
فتعضّني كي تتأكد أنّها لم تزل موجودة.
أختارُ النجاة
أقطع الصلة
أغلق كلّ الأبواب
أغلق كلّ النوافذ
أغلق حتى ثقوب الضوء الصغيرة في روحي
حتى لا تتسرّب رائحة الأمس إلى أنفاسي
حتى لا تلمسني يدُ الذكرى في عتمتي
حتى لا أرى نفسي في مرآةٍ تعرفُ اسمي القديم.
لكنّي لا أستطيع أن أمنع دموعي
دموعي تحفر طرقها في وجهي كما تحفر السيولُ مجرى في الصخر
دموعي تقول بصوتٍ أعلى من صرختي:
لم يكن الهرب سهلاً، لم يكن الهرب بلا ثمن
لقد تركتَ نفسك هناك، وحيدًا
بين بقايا ما كنتَ تحبّ
بين رماد ما كنتَ تظنّه وطنًا
بين وجوهٍ كنتَ تراها مأوى فصارت غيابًا.
أشعرُ بالفراغ
الفراغ الذي تركه القرار
أشعرُ بالثقل
الثقل الذي صنعه الصمت
أشعرُ بالوحدة
الوحدة التي لم أخترها بيدي
لكنها حاصرَتْني عندما فضلتُ النجاة على الذكريات.
أحيانًا، أسمع صدى نفسي بين جدران قلبي
صدى يمشي حافيًا فوق رماد أحلامي
يقول: لقد نجا جسدك، لكن روحك ماتت هناك
في تلك اللحظة التي اخترتَ فيها ألا تتذكّر.
أغلقُ عينيّ، أحاولُ أن أبتسم
لكن الابتسامةَ مجرّد قناع
قناعٌ ثقيلٌ كالحديد
قناعٌ يبتلعُ أنفاسي ولا يتركُ لي سوى وهم النجاة.
ما بقي لي الآن سوى هذا الصمت الموجع
وصراخٌ مكتوم يختنق في صدري
يصرخُ باسم كل حبٍ فُقِد
وباسم كلّ ذكرى هُجرت
وباسم نفسي التي تركتُها خلفي كي أعيش… لكن بلا أنا.
وكلما حاولتُ النوم
مدّ الماضي يده من تحت الوسادة
أيقظني بلمسةٍ باردة
وقال لي: لن تهرب منّي، أنا لستُ ذكرى
أنا لحمك الذي فقده قلبك
أنا وجعك الذي ينام فيك ولا ينام معك.
أمشي في الشوارع كظلٍّ بلا صاحب
أحمل اسمي كأنه اسمُ غريب
أحمل قلبي كأنه حقيبةٌ من رماد
وأمضي
أمضي في طريقٍ اخترته بنفسي
طريقٍ كلُّهُ نجاةٌ في الظاهر
وكلُّهُ موتٌ في الباطن
طريقٌ لا يزهر فيه شيء
إلاّ الحنينُ الذي يحترق ببطء
والصمتُ الذي يتضخّم حتى يصبح كونًا
كونًا أسكنُه وحدي
أتنفّس فيه رمادي
وأنتظر أن يهدأ صراخي ذات يوم
أو أن يتعلّم قلبي كيف يعيش بلا ذاكرة.

تعليقات
إرسال تعليق