بقلم: ناصر بن محمد الحارثي
مرّتْ على عادلٍ أيامٌ تملؤها الحيرةُ والسعادةُ، وأيامٌ أخرى تتخللها مشاعرُ ثقيلةٌ. لكنّهُ عاهدَ نفسَهُ أنْ يتقبّلَ هذا الأمرَ، وأنْ يتعلمَ ويستفيدَ من كلِّ ما يراهُ ويسمعُهُ كلَّ ليلةٍ. استعدَّ لليلةٍ جديدةٍ في المقبرةِ، بدأَ بالصلاةِ في غرفتِهِ قبلَ أنْ يباشرَ العملَ وزيارةَ القبورِ. كانَ الوقتُ لا يزالُ مبكراً، لكنْ في كلِّ مرةٍ كانتْ عقاربُ الساعةِ تقتربُ من منتصفِ الليلِ، كانَ عادلٌ يستشعرُ بدءَ الغموض.
كانتْ ليلةً هادئةً جداً، بلا قمرٍ، والعتمةُ تملأُ المكانَ. وحدهُ صوتُ الحيواناتِ من بعيدٍ كانَ يكسرُ سكونَ الليلِ. أنهى عادلٌ عملَهُ المعتادَ، وتهيأَ للراحةِ في غرفتِهِ، وفي لحظةٍ، هبتْ ريحٌ قويةٌ، لمْ تكنْ مجردَ ريحٍ، بلْ كانتْ عاصفةً فتحتِ النافذةَ بقوةٍ. فزعَ عادلٌ وقالَ بصوتٍ مرتجفٍ: "بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ". هبَّ لغلقِ النافذةِ، وفجأةً، لمحَ رجلاً يسيرُ ببطءٍ على عصا، يرمقُهُ بعينينِ لا يرى منها شيئاً من خارجِ الغرفةِ.
صاحَ عادلٌ: "منْ أنتَ يا عم؟"
استدارَ الرجلُ ببطءٍ، وأخذَ يمشي بخطواتٍ ثابتةٍ إلى منتصفِ المقبرةِ، حتى وصلَ إلى قبرٍ جميلٍ تحيطُ بهِ الزهورُ وأشجارُ الريحانِ. تبعهُ عادلٌ، ووجدَ الشيخَ جالساً بهدوءٍ، لكنْ تبيّنَ لهُ أنهُ كانَ أعمى البصرِ. تعجبَ عادلٌ وسألَ كعادتهِ: "أأنتَ من الإنسِ أمْ منْ أهلِ القبورِ؟"
ردَّ الشيخُ بصوتٍ حكيمٍ: "بلْ أنا من أهلِ هذهِ الديارِ يا بني، وكنتُ في انتظارِكَ بفارغِ الصبرِ، لكنّكَ لمْ تأتِ إليَّ."
تعجبَ عادلٌ: "وهلْ تعرفُني يا عم؟"
قالَ الشيخُ بابتسامةٍ حانيةٍ: "نعم، أنتَ ابنُ الشيخِ الطيبِ الذي غابَ عني، ولكنكَ أخذتَ مكانَهُ اليومَ يا بني. لقدْ كانَ يزورني ويقرأُ عليَّ السلامَ ويرشُّ الماءَ منْ حولي."
سألَهُ عادلٌ: "ومنذُ متى وأنتَ هنا؟"
أجابَ الشيخُ: "منذُ زمنن بعيد." ثمَّ سألَهُ عادل بتعجبٍ وهو يراهُ مبتسماً: "أراكَ سعيداً يا عم! فما قصتُكَ؟"
بدأَ الشيخُ يقصُّ حكايتهُ، ودموعُ الندمِ تنسابُ على خديهِ العمياءِ: "عندما كنتُ شاباً في الباديةِ، تزوجتُ منَ ابنةِ عمّي، وأنجبتُ منها تسعةَ أولادٍ ذكورٍ. كنتُ أتفاخرُ بهمْ أمامَ الناسِ. ولكنْ في الحملِ العاشرِ، أنجبتْ لي أنثى. وعندما بُشِّرتُ بها، حزنتُ حزناً شديداً وشعرتُ بالإهانةِ، وقلتُ وأنا أصرخُ: "يا ليليَ الأسودَ! يا ليليَ الأسودَ!". قاطعتُ زوجتي، وصرتُ أنظرُ إليها نظرةَ تشاؤمٍ، وكأنها هي التي خلقتْ هذهِ الفتاة.
مرّتِ الأيامُ والسنينُ، وتوفيتْ زوجتي، وكبرتُ في السنِّ، وضعُفتْ صحتي، وفقدتُ بصري. تزوجَ الأبناءُ وانشغلوا بحياتِهم، ونسوا أباهم الضريرَ. لكنَّ ابنتي، التي أسميتُها "ليلي الأسود"، عندما سمعتْ ما حدثَ لي، سارعتْ لزيارتي. ولما دخلتْ عليَّ، بدأتْ تغسلُ جسدي وتنظفُ خيمتي، وطهتْ لي الطعامَ. أحسستُ براحةٍ لمْ أشعرْ بها منْ قبل. ولما اقتربتْ مني لتعطيني الدواءَ، أمسكتُ بيدِها وسألتُها والدموعُ تنهمرُ منْ عينيها: "منْ أنتِ يا بنتَ الكرامِ؟"
فقالتْ وهي تبكي: "أنا ليلُكَ الأسودُ يا أبي."
عندها، عرفتُ أنها ابنتي، وانفجرتُ بالبكاءِ، وقلتُ لها نادماً ومتأسفاً: "سامحيني يا بنيّتي، ليتَ اللياليَ كلها سودٌ."
كانتْ ابنتي هيَ التي اهتمّتْ بي حتى فارقتُ الدنيا، وهيَ بارةٌ بي. وكلُّ أسبوعٍ كانتْ تأتي لتزورني، وتضعُ الزهورَ على قبري. والآنَ هيَ أيضاً كبرتْ في السنِّ، وصارتْ جدّةً، ولمْ تعدْ تقوى على زيارتي كما كانتْ، بلْ يأتي أحفادُها مرةً في السنةِ لزيارتي. كمْ أنا نادمٌ على هجرانِها وأمّها في تلكَ الأيامِ يا بني. فاعلمْ أنَّ البناتِ هنَّ الخيرُ كلهُ، هنَّ البناتُ والأمهاتُ والأخواتُ والزوجاتُ، وهنَّ قواريرُ رقيقةٌ، وأمانةٌ عندنا يجبُ أنْ نصونها أبدَ الدهر.
حزنَ عادلٌ لحالِ الشيخِ الأعمى، وقالَ لهُ: "لا تحزنْ يا عم، لقدْ أحسنتَ إلى نفسِكَ في الدنيا، وسيكافئكَ اللهُ في الآخرةِ إنْ شاءَ اللهُ. وأنا بدوري لنْ أقطعَكَ، وسأزوركَ دائماً. يا ليتَ أبي معنا ليسمعَ حديثَكَ هذا."
ابتسمَ الشيخُ ابتسامةً ملؤها الرضا، واختفى في سكونِ الليلِ تاركاً خلفَهُ قطعةً ذهبيةً تلمعُ على ترابِ القبرِ. أخذها عادلٌ، وعادَ إلى غرفتِهِ، وهوَ يضمُّ الكنزَ الجديدَ إلى كنزيهِ السابقينِ. لمْ تعدِ القطعُ الذهبيةُ مجردَ مالٍ، بلْ أصبحتْ تحملُ قصصاً ودروساً عن الندمِ، والوفاءِ، والحبِ. فهمَ عادلٌ أنَّ ثروةَ والدهِ لمْ تكنْ منْ عملِهِ، بلْ من حكمةِ قلبهِ الذي كانَ يجبرُ كلَّ قلبٍ مكسورٍ، ويواسي كلَّ روحٍ وحيدةٍ.
نامَ عادلٌ تلكَ الليلةَ وهوَ يدركُ أنَّ كلَّ يومٍ في المقبرةِ يجعلهُ أقربَ إلى والدهِ... وأقربَ إلى حكمةِ الحياة.

تعليقات
إرسال تعليق