حارس المقبرة..الفصل الثامن: طيور الجنة

 بقلم : الاسم ناصر بن محمد الحارثي



​أشرقَ صباحُ يومِ العيدِ على عائلةِ عادلٍ، وقدْ مضى شهرٌ على وفاةِ والدهِ الشيخ. كانَ البيتُ يضجُّ بالفرحِ والضحكاتِ، لكنَّ عادلًا كانَ يختزنُ في قلبهِ حكمةَ والدهِ ودروسَ المقبرة. كانَ يوزّعُ العيديةَ والصدقاتِ على المحتاجينَ كما كانَ يفعلُ والدُهُ، لكنْ دونَ أنْ يمسَّ أيّاً منْ كنوزِ المقبرةِ التي جمعَها. فقدْ أقسمَ على نفسهِ أنْ تكونَ تلكَ الكنوزُ أمانةً لا تُصرفُ إلا في أشدِّ الأوقاتِ.

​وفي اليومِ الثالثِ منْ أيامِ العيدِ السعيدِ، شعرَ عادلٌ بشعورٍ غريبٍ لمْ يعهدْهُ منْ قبل. كانَ نداءً صامتاً يهمسُ في روحهِ: "تعالَ إلينا... لا تنسَنا في العيد". جلسَ للحظاتٍ يتأمّلُ، ثمَّ أدركَ أنَّ هناكَ أرواحاً في المقبرةِ تستحقُّ الزيارةَ في العيدِ، أرواحٌ نسيَها  الأحياءُ منذُ سنينَ عديدة.

​أخذَ عادلٌ فرسَهُ وتوجّهَ إلى المقبرةِ. ألقى السلامَ على الجميعِ بصوتٍ حنونٍ: "السلامُ عليكمْ دارَ قومٍ مؤمنين، أنتمُ السابقونَ ونحنُ اللاحقونَ، وكلُّ عامٍ وأنتمْ بخير." لمْ يكتفِ بذلكَ، بلْ أخذَ يزورُ قبراً بعدَ قبرٍ، يحدّثُ الموتى ويهنئهمْ بالعيدِ، وكأنّهمْ أحياءٌ أمامهُ.

​أنهى عادلٌ جولتهُ وعادَ إلى البيتِ، لكنَّ الشوقَ إلى المقبرةِ كانَ يناجيه. لمْ يتمالكْ نفسَهُ، وقرّرَ أنْ يبيتَ الليلةَ في المقبرةِ، كأنهُ أحسَّ أنَّ شيئاً سيحدثُ. تعشّى معَ أبنائهِ، وودّعَ زوجتَهُ التي كانتْ غيرَ راضيةٍ بقرارهِ، لكنه أصرَّ عليها حتى وافقتْ، وأقسمَ لها أنْ يعودَ في الصباحِ.

​دخلَ عادلٌ إلى المقبرةِ، واستعانَ باللهِ، وأخذَ يتلو الأذكارَ في غرفتِهِ حتى منتصفَ الليلِ. فجأةً، نزلَ ضبابٌ كثيفٌ ملأَ المكانَ، ولمْ يكدْ يرى شيئاً. دبَّ الخوفُ في قلبهِ، لكنّهُ سمعَ فجأةً صوتَ غناءٍ جميلٍ يأتي منْ مدخلِ المقبرةِ. أخذَ مصباحَهُ وشمعةً، وتوجّهَ نحو الصوتِ، حتى وصلَ إلى حيثُ تُدفنُ قبورُ الأطفالِ. كانَ الضبابُ والظلامُ يحجبانِ الرؤيةَ عنه، لكنّهُ رأى خمسةَ أطفالٍ يرتدونَ لباساً أبيضَ، ثلاثةُ أولادٍ وبنتانِ، يغنونَ أغنيةً عذبةً.

​اقتربَ منهمْ، وسلّمَ عليهمْ، ثمَّ سألَ كما اعتادَ: "هلْ أنتمْ منْ أهلِ الدنيا أمْ منْ أهلِ القبورِ؟"

​أكملَ الأطفالُ غناءَهم الجميلَ، وعندما انتهوا، قالوا بصوتٍ ملائكيٍّ: "مرحباً بكَ يا عمّاه! لِمَ لا تلعبُ معنا؟"

​قالَ لهمْ عادلٌ متعجباً: "كيفَ ألعبُ معكمْ وأنتمْ أمواتٌ؟"

​أجابوا: "ألمْ يخبركَ والدُكَ عنّا؟"

​قالَ عادلٌ بحزنٍ: "لمْ يخبرني. لقدْ توفّاهُ اللهُ منذُ شهرٍ."

​حزنَ الصغارُ وبكوا على الشيخِ، فجلسَ عادلٌ معهمْ، وقالَ بصوتٍ حنونٍ: "ما خطبُكمْ يا طيورَ الجنة؟"

​بدأتِ الفتاةُ الصغيرةُ تروي: "نحنُ إخوةٌ. كنا نعيشُ في الباديةِ معَ والدينا. وفي يومٍ حارٍّ، مرَّ والدُكَ الشيخُ بخيمتِنا، فاستضافهُ أبي وقدّمَ لهُ بعضَ حليبِ الغنمِ وبعضَ التمرِ. تفقدَ والدُكَ حالَنا، وسألَ عنْ أحوالِنا، ثمَّ قالَ: 'تعالوا في الغدِ إلى المدينةِ، واسألوا عنّي'. وفي اليومِ التالي، ذهبَ والدي إلى المدينةِ، والتقى الشيخَ الطيبَ، فأعطاهُ قطعاً منَ الذهبِ والكثيرَ منَ الهدايا والطعامِ، وحماراً يركبُهُ ويستعينُ بهِ في مشاقِّ السفر. عادَ والدي إلى البيتِ ومعهُ الهدايا التي أدخلتِ السعادةَ إلى قلوبِنا. لعبنا وتعشينا في تلكَ الليلةِ، وبتنا سعداءَ نحمدُ اللهَ على كرمِهِ وندعو لوالدِكَ الشيخِ الطيب. وفي صباحِ أحدِ الأيامِ، بعدَ أنْ تحسّنَ حالُنا، خرجَ والدي ووالدتي إلى المدينةِ، فتركانا معَ الغنم. وبعدَ فترةٍ، هجمَ علينا قطّاعُ طرقٍ كانوا قدْ علموا أنَّ عندنا مالاً. كانَ أبي معهمْ، فسألوهُ عنِ المالِ، فدلّهم عليهِ، فأخذوهُ كله. لكنهمْ لمْ يتركونا، بلْ قتلونا جميعاً خوفاً منْ أنْ نشتكيَ عليهم. وبعدَ مدةٍ، مرَّ راعي غنمٍ صديقٍ لوالدي بخيمتِنا، فأبلغَ الشيخَ، الذي جاءَ إلينا مسرعاً، وأكرمَنا، وغسّلَنا، وصلّى علينا، ودفننا هنا معَ الأطفالِ. أما أبي وأمي، فقدْ دفنهُما في الجانبِ الآخرِ هناك. وكانَ ذلكَ اليومُ يومَ عيدٍ، ولمْ يهنأْ والدُكَ بالعيدِ حينها؛ لأنهُ كانَ حزيناً علينا. ونحنُ في كلِّ عيدٍ نجالسُهُ ونغني لهُ ونشكرُهُ على طيبةِ قلبهِ. وها هوَ قدْ انتقلَ إلى ربٍّ كريمٍ رحيم. وأنتَ يا عادلُ تذكّرنا بهِ، فلا تقطعنا بالسلامِ والدعاءِ."

​تأثرَ عادلٌ حزناً على قصتِهم، وقالَ لهمْ بصوتٍ مخنوقٍ بالدموعِ: "إنْ شاءَ اللهُ يا طيورَ الجنة، لنْ أنساكمْ أبداً."

​عندها، اختفوا، وانقشعَ الضبابُ معَهم، ووجدَ عادلٌ على كلِّ قبرٍ من قبورِهم زمردةً خضراءَ تشعُّ نوراً وجمالاً. أخذَ عادلٌ الزمردَ، وقالَ: "الحمدُ للهِ الذي بنعمتِهِ تتمُّ الصالحاتُ وتنزلُ البركات." رحمَ اللهُ الأطفالَ الصغارَ، وعاهدَ نفسَهُ أنْ يتصدّقَ عليهمْ جميعاً منْ حرِّ مالهِ، إكراماً لهمْ ولما لقوهُ منْ قسوةِ الدنيا.

تعليقات