تلاشي صوت 

بقلم : زهرة الراسبي



"الظلام يحول نور

والنور يُرى ظلاما

العزيز يُصبح ذليلا

والخسيس يُعد عزيز"

تواثب صوته يمخر عباب أمواج ظلام تلاطمت في لجة ليل يقال أنه سرمدي وانطلق بموجاته المتناغمة مع الكلمات بلا توقف: فتارةً ثائراً وتارةً حزين وتارةً مريعا وأخرى غير مفهوم .

2

سبح صوته عبر نوافذ عانقت النجوم ومنها إلى أخرى رابطت فوق الثرى فكان كسراج يحمل ناقوسا يدق نواصي العقول ويلامس شغاف القلوب. فأضاء سراجه نافذة تخبأ خلفها وضيع متخفياً بثياب منمقة وشعراً لامعا عاقر الذنوب حتى ثمل خلف نافذته وبدأ يعد مكاسبه الهشة واحدة تلو الأخرى منتشيا بها ،حتى رن هاتفه للمرة المليون لمن يبدون له إمتنانهم لفضله ،وعرفانهم لأماناته وما أن زادت نسبة السعادة الزائفة في دمه حتى علا صوتاً صاعدا من أسفل الزقاق المظلم :

"الخائن يُعد أمين

والأمين يبدوا خائن

الجميل يُرى قبيح

والقبيح يُرى جميل"

شعر المتنمق بضوء شديد يكشف وجهه الحقيقي فأطلق صرخة غضب نحو المنادي: اذهب من هنا أيها النكرة وإلا ستلقى في مقصلة الصمت الأبدي.

لم ترمش عينا المنادي أو يبدي خوف لما سمعة من تهديد من ذي شأن واكتفى بإكمال مناداته شديدة التنفير رقيقة التنفيس .

"الخائن يُرفع فوق الرؤوس

والأمين يداس تحت الأقدام

الظالم منصور

والمظلوم مخذول "

فسرت نغمات ندائه لتلامس وتر أعصاب حزينة اختارت إحدى زاوية غرفتها لتكون مرسى أحزانها وتوحشت بالظلام لتخفي حسرتها فأطلقت آهه سمعتها جدران غرفتها فرددت صداها في أرجائها الكئيبة وما إن نظرت إلى النافذة حيث يسري النداء حتى بدأت تردد ببكاء خفياً وبلهجة مستغرب :

"الظالم منصور!!

والمظلوم منصور!!"

"الظالم منصور!!

والمظلوم منصور!!"

                     3

وعلى بعد ثلاثة طوابق إلى الأعلى تقبع نافذة يزين مرآها بريق النجوم وعلى مقربة منها فتى نحت على جبينه علو الهمم وأمسك في قلبه أمل القمم فها هو ينظر إلى مرأى نافذته كأنه ينظر إلى أبواب المستقبل تفتح له على مصراعيها بعد هذه المرحلة المهمة ويحق له الحلم فلم يدخر جهداً لطرق أبواب مستقبلة وعلى الجهة المقابلة له تماما بالجانب الآخر للزقاق خلف نافذة أُغلقت بإحكام وتم تشميعها بغلاف اسود تجري أحداث عقد إتفاق بين غني مثخن بالذنوب ومرتش مثقل بالمهام على توصيل من لا يستحق للمعالي ، مما يسقط أولئك المتأملين من جهدهم خيراً كنتيجة طبيعية لهذا التبديل في المراتب .

                      4

وبضوء خافت لسراج قديم تشرق نافذة متهالكة فوق السطوح لساجد ندي الخد ،فائض الدمع ،عامر الخشوع ،نقي اللب ،هو جندي ليل، وشريف صباح، ويلقب بالشاذ لسبب غير غريب وهو شذوذه عن القاعدة العامة لهذا العصر :المتداعي القيم،خاوي الأخلاق .

وعلى بعد خمسة أزقة الى اليمين من شارع الزيف تبرق نافذة لافته بأضوائها الجذابة وألوانها البراقة وأصواتها الصاخبة :هي حفلة تمجد الرزايا فتشق سكون ليل نائم لتبعث فيه صراع بين أصوات غناء صاخب وصوت منادينا المجهول:

"سيكثر الهرج والمرج

ويقل الوعظ والورع

سيعلو السفه كثيراً

ويبدو الدين عليلاً

وفعلا زاد الصخب وعلا الغناء والمرج فتاه صوت منادينا بين حنايا الغثاء المتزاحم عبر الأجواء ! ولم ييأس من إيصال صوته لكل حي على وجه الأرض فاستجمع قوته وملأ صدره ولمعت عيناه وقبض يمناه بيسراه وبقوة الرعد هتف:

" سينصت للجدل

ويهمل النصح

سيمحى الجمال

وينصب للخداع

سيرفع الباطل

ويمحى الحق

في آخر الزمان

 في آخر الزمان

فاحذر يا إنسان

من هذا الزمان

ابحث عنه

ابحث عن الحق...الحق

سيمحى الحق

سيمحى الحق

سيمـ........

لم يكمل كلمته فعشرات من الطلقات الصامتة كانت كفيلة بأن تجعل من منادينا غربال دماء هائمة فعم السكون.

و لأول مرة كان زقاق الزيف تحت سلطة جيش السكون مع التسلخ بالهدوء البارد وبعدها بدقائق ثقيلة نزل الناس يبحثون عن المنادي القتيل فلم يجدوا له أثر ! فتجادلوا فيه: منهم من قال انه دُفن بخفة خفية ،ومنهم من لم يستوعب الأمر وأعتقد بحقيقته الغامضة وبأغواره اللانهائية وآخرون استسلموا فأرجعوه الى نسج خيالهم فقط !

وفي الأخير ارتفعت الأصوات لإختلافهم وانطفأت العقول للتعرف على قاتله أو قاتليه وأسباب القتل فأقفل ملف قضية المنادي إلى مبني للمجهول لأسباب غير معروفة .

وعلى مدى غير بعيد تجري إشاعة تقول: ان شبح المنادي يُسمع بين الحين والآخر مع ارتفاع صوت الريح وانخفاض رطوبة التقوى والإشعاع الديني.

تعليقات