حارس المقبرة ​الفصل الثالث عشر: كنزٌ أغلى من الذهب

 بقلم: ناصر بن محمد الحارثي 


​كانتْ أياماً جميلةً، وأخرى صعبةً، في حياةِ عادلٍ الذي ورثَ عنْ والدِهِ كنزاً منَ الحكمةِ والصبرِ، لمْ يُورثْهُ أحدٌ منَ البشرِ. لقدْ أصبحَ الصبرُ والثباتُ والاستعانةُ باللهِ منهجَ حياتِهِ. عملُهُ كحارسٍ للمقبرةِ، الذي كانَ يبدو صغيراً في أعينِ الناسِ، أصبحَ في نظرِ عادلٍ أعمقَ وأكثرَ قداسةً منْ أيِّ منصبٍ. كانَ يقدّسُ عملَهُ، ويهتمُّ بكلِّ شبرٍ في المقبرةِ الواسعةِ.

​رتبَ عادلٌ حياتَهُ بروتينٍ يوميٍّ، يجمعُ بينَ واجباتِهِ تجاهَ أهلِهِ، واهتمامهِ بالناسِ، وحرصِهِ على المقبرة. لمْ يكنْ يجدُ راحةً حقيقيةً إلا في يومِ الجمعةِ، الذي يقضيهِ معَ زوجتِهِ وأبنائِهِ. وفي بدايةِ كلِّ يومِ عملٍ جديدٍ، كانَ يحرصُ على زيارةِ كلِّ القبورِ التي التقى أهلَها، يُسلّمُ عليهمْ ويدعو لهمْ.

​مرتْ عدةُ أيامٍ دونَ أنْ يلتقيَ عادلٌ بأحدٍ منْ أهلِ القبورِ، فظنَّ أنَّ الأمرَ قدْ انتهى، وأخذَ يستعدُّ لكلِّ ليلةٍ بالصلاةِ والدعاءِ. ولكنْ، في منتصفِ ليلةِ السبتِ، بينما كانَ الهدوءُ يخيمُ على كلِّ شيءٍ، سمعَ صوتَ تلاوةٍ للقرآنِ الكريمِ. صوتٌ عذبٌ نقيٌّ لمْ يسمعْ مثلهُ منْ قبلُ، تترنّمُ بهِ الآياتُ فتسري في القلبِ وتُطمئنُ الروحَ.

​خرجَ عادلٌ منْ غرفتِهِ حاملاً مصباحَهُ، يتتبعُ الصوتَ، إلى أنْ وصلَ إلى قبرٍ تحيطُ بهِ أشجارٌ وأزهارٌ جميلةٌ. كانَ هناكَ رجلٌ ذو هيبةٍ ووقارٍ، ولحيةٍ بيضاءَ كثيفةٍ، يلبسُ عمامةً وعباءةً بيضاءَ. كانتِ السكينةُ والهدوءُ تكسوهُ. لمْ يقاطعْهُ عادلٌ، بلْ جلسَ يستمعُ بخشوعٍ حتى انتهى الرجلُ منْ قراءتِهِ.

​سلّمَ عادلٌ عليهِ، وسألهُ: "هلْ أنتَ منْ أهلِ الدنيا أمْ منْ أهلِ القبورِ؟"

​أجابَ الشيخُ بصوتٍ حنونٍ: "بلْ أنا منْ أهلِ هذهِ الدارِ."

​قالَ عادلٌ بفضولٍ: "منْ أنتَ يا شيخ؟ تبدو عليكَ السعادةُ والبهجةُ. ما قصتُكَ؟"

​قالَ الشيخُ: "كنتُ أعيشُ وحيداً في الباديةِ خلفَ الجبالِ، أرعى الغنمَ. وحينَ كبرَ أبنائي، تركُوني بحثاً عنْ حياةٍ أخرى، ولمْ يَبقَ لي إلا زوجتي وابني الصغيرِ حامد. عشنا في عزلةٍ، نأكلُ مما نزرعُ، ونشربُ الماءَ ولبنَ الغنمِ. إلى أنْ جاءَ صيفٌ حارٌّ، وجفّتِ المياهُ، وماتتِ الشياهُ، وصعبَ علينا الحالُ."

​"في تلكَ الأثناءِ، مرَّ بنا والدُكَ الشيخُ الطيبُ في سفرٍ لهُ. أقامَ عندنا، وحينَ حانَ وقتُ الصلاةِ، صلينا معاً. أحبَّ صوتي وتلاوتي للقرآنِ، فاقترحَ عليَّ أنْ أرافقَهُ إلى المدينةِ، ووعدَني بعملٍ أعيشُ منهُ أنا وأهلي."

​روى الشيخُ قصتَهُ، وعادلٌ يستمعُ بصمتٍ ودهشةٍ.

​أكملَ الشيخُ: "قلتُ لوالدِكَ: 'أنا راعي غنمٍ، ولا أعلمُ عملاً غيرَهُ.' فقالَ: 'لا عليكَ، تعالَ وستجدُ ما يسرُّ قلبَكَ.' أخذتُ بنصيحتِهِ، وسافرنا معاً إلى المدينةِ. كانَ أهلُ بيتهِ في استقبالنا، وأهداني بيتاً صغيراً. قالَ لي: 'منَ الغدِ أنتَ معلمُ القرآنِ في هذهِ المدرسةِ التي بنيتُها لتعليمِ الأجيالِ كتابَ اللهِ تعالى'."

​صمتَ الشيخُ للحظةٍ، وابتسمَ، وقالَ: "ومنْ يومِها، وأنا أعلّمُ أطفالَ المدينةِ القرآنَ، وأحبّني الناسُ. وأنتَ يا عادلُ كنتَ صغيراً يومها. وما هيَ إلا بضعُ سنينَ، حتى حانَ وقتُ رحيلي إلى الدارِ الآخرةِ. كنتُ في مدرستي، وكتابُ اللهِ بينَ يدي، ورزقني ربي حسنَ الخاتمةِ."

​صاحَ عادلٌ متفاجئاً: "الشيخُ حامد! ابنُكَ هوَ منْ علّمني القرآنَ في شبابي!"

​قالَ الشيخُ: "نعمْ يا بُنَيَّ. نِعمَ الرجلُ ونِعمَ الأب. الفضلُ للهِ أولاً، ثمَّ لأبيكَ الذي مهدَ لنا طريقَ الهدايةِ والقرآنِ. رحمَهُ اللهُ وأسكنَهُ فسيحَ جناتِهِ. كمْ تمنيتُ أنْ يكونَ بجانبنا، لكنَّ اللهَ اختارهُ بجوارِهِ."

​قالَ عادلٌ، وعيناهُ تلمعانِ: "كيفَ لي أنْ أكونَ عوناً لكَ؟"

​قالَ الشيخُ: "لا تنسَ مدرسةَ والدِكَ، ولا روادَها. واعملْ دائماً على خدمةِ كتابِ اللهِ، فبهِ تنلْ خيريْ الدنيا والآخرةِ. إنَّ هذهِ النصيحةَ هيَ أثمنُ ما أملكُ."

​ودّعَ الشيخُ عادلًا، تاركاً لهُ نصيحةً أغلى منْ كلِّ كنوزِ الأرضِ. عادَ عادلٌ إلى بيتهِ، محملًا بموعظةٍ منْ مواعظِ النجاحِ، وسرٍّ منْ أسرارِ والدهِ الحكيمِ، ومفتاحِ كنزٍ جديدٍ: كنزِ العلمِ والقرآن.

تعليقات