حارس المقبرة ..الفصل السادس: وداعُ الحكمة

بقلم: ناصر بن محمد الحارثي 


​أشرقَ صباحٌ مشمسٌ وجميلٌ على بيتِ عادلٍ، الذي تولّى مهامَ العائلةِ بعدَ سفرِ والدهِ الشيخِ إلى الحجّ. لقدْ لاحظتْ والدتُهُ وزوجتُهُ وأبناؤهُ التغييرَ الكبيرَ الذي طرأَ عليهِ. لقدْ صارَ أكثرَ حكمةً وصبراً، وأصبحَ متشوقاً لعملهِ في المقبرةِ أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضى. مضى على غيابِ الشيخِ أبي عادلٍ أسبوعانِ، وكانتِ القلوبُ كلها تملؤُها السكينةُ والأملُ بعودته.

​وبينما كانَ عادلٌ يخرجُ من صلاةِ العصرِ في الجامعِ، سمعَ صوتَ شيخِ الجامعِ وهوَ ينادي بصوتٍ خاشعٍ: "إنا للهِ وإنا إليهِ راجعونَ. لقدْ وصلَنا خبرٌ من الديارِ المقدسةِ بأنَّ جماعةً من الحجاجِ منْ مدينتِنا قدْ انتقلوا إلى جوارِ ربّهم بسببِ الزحامِ الشديدِ. رحمَ اللهُ عباده."

​تجمّدَ عادلٌ في مكانِهِ، وقلبُهُ يرتجفُ خوفاً، وهوَ يتمنى ألا يكونَ اسمُ والدهِ من بينِ الأسماءِ التي سيُعلنُها الشيخُ. وهنا، قالَ الشيخُ بصوتٍ حزينٍ: "وننعي جميعاً فقيدَ مدينتِنا وشيخَنا الحكيمَ أبا عادلٍ الذي وافتْهُ المنيةُ في الحجازِ ودُفنَ في مقابرِ المسلمينَ في مكة."

​شعرَ عادلٌ أنَّ العالمَ قدْ توقفَ عن الدوران. لفَّ الحزنُ الجميعَ في الجامعِ، وأقيمتْ مراسيمُ العزاءِ في المدينةِ لثلاثةِ أيامٍ متواصلةٍ، بينما عادلٌ وأهلهُ يستقبلونَ المعزينَ بصبرٍ وحكمةٍ. لقدْ أدركَ عادلٌ أنَّ المسؤوليةَ قدْ وقعتْ الآنَ على عاتقِهِ وحدَهُ. قامَ على أهلِهِ وإخوتِهِ بالعدلِ والحكمةِ كما لو كانَ والدهم بينهم. قسّمَ الميراثَ عليهم جميعاً بالعدلِ، وجمعَ إخوانَهُ وزوجاتِ والدهِ، وأوصاهم بالتقوى والمحبةِ، وحذرهم من التفرقةِ كما كانَ يفعلُ والدهم.

​بعدَ أنْ مضتِ الأيامُ واطمأنَّ عادلٌ على استقرارِ البيتِ والعائلةِ، حانَ موعدُ العودةِ إلى عملهِ. كانَ مساءُ يومِ جمعةٍ حينَ دخلَ المقبرةَ، وحيداً لكنْ قوياً. توجّهَ إلى منتصفِ المقبرةِ، ووقفَ بينَ القبورِ وقالَ بصوتٍ متهدّجٍ وكأنهُ يخاطبُ أهلاً وأحباباً: "يا أهليَ هنا، لقدْ انتقلَ أبي إلى جوارِ ربّهِ في خيرِ بقاعِ الأرضِ. لقدْ أوصاني بكمْ، وأنا إنْ شاءَ اللهُ لكمْ أخٌ وأبٌ كريم. والسلامُ عليكمْ ورحمةُ الله."

​بدأَ عادلٌ عملَهُ المعتادَ، يزورُ القبورَ، ويسقيها بالماءِ، إلى أنْ سمعَ صوتَ بكاءٍ من بعيد. تتبعَ الصوتَ فوجدَ امرأةً عجوزاً تبكي بحرقةٍ بجانبِ أحدِ القبور. اقتربَ منها عادلٌ بحذرٍ وألقى عليها السلامَ وقالَ: "هلْ أنتِ منْ أهلِ هذهِ الديار؟"

​ابتسمتْ العجوزُ وقالتْ: "نعمْ يا بني، أنا هنا منذُ زمنٍ. ولقدْ علمتُ بوفاةِ والدِكَ، وأنا حزينةٌ لأجلهِ وسعيدةٌ في الوقتِ ذاتهِ؛ لأنَّ اللهَ اختارهُ بجوارِهِ."

​سألَ عادلٌ: "ومنْ أنتِ يا عمة؟"

​قالتْ: "أنا أمُ عبدِ اللهِ. عشتُ طوالَ عمري أخدمُ الناسَ في بيوتِهم أنا وزوجي. وبعدَ وفاتهِ، ضاقتْ علينا الدنيا، وشقيتُ أنا وابنيَ الصغيرَ منْ حياةِ المدينةِ. عملتُ ليلاً ونهاراً من أجلِ لقمةِ العيشِ، حتى التقيتُ بوالدِكَ. لقدْ أشفقَ عليَّ، وأهداني شقةً في المدينةِ ومنعني من العملِ لأجلِ كرامتي، وصارَ يصرفُ علينا أنا وولدي في الخفاءِ، حتى كبرَ ابني وعملَ عندَ والدِكَ في أحدِ محلاتهِ."

​أوقفَها عادلٌ بذهولٍ: "إذاً، عبدُ اللهِ صاحبُ محلِ القماشِ يكونُ ابنَكِ؟"

​أجابتْ: "نعمْ يا بني."

​فقالَ عادلٌ، وعيناهُ تدمعُ فرحاً: "لقدْ كانَ نِعمَ الرجل. كانَ منْ أوائلِ المعزّينَ، وظلَّ بجانبِنا في وقتِ الشدةِ، ولمْ أكنْ أعرفُ السببَ. لمْ يخبرني أبي عنهُ."

​تنهّدتِ العجوزُ وقالتْ: "نعمْ يا بني، لقدْ كانَ والدُكَ يحبُّ الخيرَ للناسِ ويمشي في قضاءِ حوائجِهم في الخفاءِ لينالَ رضا اللهِ. لنْ أنسى فضلَهُ علينا أبداً. كانَ نِعمَ الرجلِ الذي عاشَ للناسِ. رحمَهُ الله."

​تنهّدَ عادلٌ وقالَ: "هلْ لكِ منّي منْ حاجةٍ يا عمة؟"

​قالتْ: "لا يا بني، ولكنْ لا تنساني بالسلامِ والدعاءِ كما كانَ يفعلُ والدُكَ."

​قالَ لها عادلٌ: "إنْ شاءَ اللهُ يا عمة."

​حينها، اختفتِ العجوزُ لتتركَ وراءَها قطعتينِ ذهبيتينِ على ترابِ قبرها. أدركَ عادلٌ في تلكَ اللحظةِ أنَّ ثروةَ والدهِ لمْ تكنْ منْ جنيِ الأموالِ، بلْ كانتْ حصاداً لأعمالِ الخيرِ. فكلُّ روحٍ كانَ يواسيها الشيخُ، كانتْ تُهديهِ جزءاً منْ كنوزِها الحقيقيةِ. أخذَ عادلٌ القطعتينِ وعادَ إلى غرفتِهِ، ونامَ نوماً هادئاً بعدَ يومٍ طويلٍ مليءٍ بالحكمةِ والتضحياتِ الجميلةِ، وهوَ يدركُ أنَّ كلَّ ليلةٍ سيعيشُها في المقبرةِ ستكونُ رسالةً جديدةً منْ والدهِ إليهِ.

تعليقات