حارس المقبرة ​الفصل الثاني: الوصية الأخيرة

بقلم: ناصر بن محمد الحارثي 


​وصلَ الأبُ معَ ابنهِ عادلٍ إلى المقبرةِ، ووقفا في منتصفِها، حيثُ ترتفعُ شواهدُ القبورِ كأصابعَ تُشيرُ إلى السماءِ. نظرَ الشيخُ أبو عادلٍ إلى المكانِ بعينينِ تملؤهما المودةُ، وقالَ بصوتٍ خافتٍ وكأنهُ يهمسُ لنفسهِ: "المقبرةُ هيَ بيتيَ الثاني، وأهلُها همْ أهلي وأصحابي. إنهمْ يستمعونَ إليَّ دائماً، ولا يخالفونني كبيرُهم وصغيرُهم. أزورهم كلَّ يومٍ، وألقي عليهم السلامَ، وأتحاورُ معهم في أحيانٍ أخرى. أسقي قبورَهم في أيامِ الصيفِ القاسيةِ، وأُزيلُ عنها الأعشابَ الضارةَ. أبْعدُ عنها الكلابَ والحميرَ السائبةَ، لذلكَ همْ يحبونني ويحترمونني، وبذلكَ لا يؤذونني؛ لأني صديقُهم المخلصُ وحبيبُهم قبلَ أنْ أكونَ حارسهم في كلِّ ليلة".

​اجتاحتْ قشعريرةٌ باردةٌ جسدَ عادلٍ وهوَ يستمعُ إلى والدهِ. كيفَ يمكنُ للموتى أنْ يحبّوا؟ وكيفَ يمكنُ لهم أنْ يؤذوا؟ لمْ يعدْ عادلٌ يرى المقبرةَ كمجردِ مكانٍ للراحةِ الأبديةِ، بلْ كمملكةٍ غامضةٍ لوالدهِ، مملكةٍ لا يعرفُ قوانينَها.

​قاطعَ عادلٌ والدهُ بذهولٍ: "وكيفَ يتعلمونَ منكَ يا والدي؟"

​ضحكَ الشيخُ أبو عادلٍ ضحكةً خفيفةً، وقالَ بنبرةٍ غامضةٍ: "ستعرفُ عما قريب."

​استمرَّ الشيخُ في حديثهِ معَ ابنهِ، ثمَّ أخذَهُ في جولةٍ طويلةٍ بينَ القبورِ، يُدلهُ على مقابرَ قديمةٍ وأخرى جديدةٍ، ويُعرّفهُ على أصحابِها وكأنهمْ من أهلهِ الأحياء. كانَ يقصُّ عليهِ قصصاً عن حياتِهم وعلاقاتِهم، وكأنهُ عاشَ معهم لحظاتِهم الأخيرة. تعجبَ عادلٌ من هذا الكمِّ الهائلِ من التفاصيلِ التي يعرفُها والدهُ عن هؤلاءِ الموتى، وتساءلَ في نفسهِ: "كيفَ لهُ أنْ يعرفَ كلَّ هذهِ الحكايات؟"

​بعدَ الجولةِ الطويلةِ، عادَ الشيخُ وابنهُ إلى مكتبِ الحراسةِ الصغيرِ. قالَ لهُ والدهُ: "هذا سيكونُ مقرَّ عملِكَ وبيتكَ الثاني، كما فعلتُ أنا لثلاثينَ عاماً. ويجبُ أنْ تعرفَ يا عادلُ كيفَ تحمي بيتَكَ وتحمي نفسَكَ."

​فزعَ عادلٌ وقالَ بصوتٍ خائفٍ: "ممنْ أحمي نفسي يا والدي؟"

​قالَ الأبُ بصوتٍ جادٍّ: "من أهلِ القبورِ يا عادل! إنْ أنتَ آذيتَهم سيؤذونكَ". تجمّدَ عادلٌ في مكانِهِ، ورفضَ عقلُهُ أن يستوعبَ ما سمع. "لا تخف، يا ولدي، لم يؤذِني أحدٌ منهم أبداً لأني كما قلتُ لكَ، همْ أهلي وأحبابي وأصحابي. وعليكَ أنْ تكونَ كبيرَهم وقدوتَهم؛ لأنكَ أنتَ الحيُّ وهمُ الأموات."

​أدركَ الشيخُ الذعرَ الذي أصابَ عادلٍ، فقرّرَ أن يكملَ حديثَهُ في وقتٍ لاحقٍ، لكي يتمكّنَ عادلٌ من استيعابِ ما يقول. عادَ الشيخُ معَ ابنهِ إلى المنزلِ، وفي المساءِ، ذهبَ الشيخُ إلى عملهِ في المقبرةِ، وتركَ عادلًا يصارعُ الأفكارَ حتى غلبَهُ النعاس.

​وفي اليومِ التالي، عادَ الشيخُ إلى ابنهِ وسألهُ: "هلْ غيَّرتَ رأيَكَ يا بنيَّ، أمْ أنكَ مستعدٌّ للمزيد؟"

​قالَ عادلٌ بترددٍ: "نكملُ إن شاءَ اللهُ يا والدي."

​وهنا، أكملَ الشيخُ حديثَهُ، وقالَ لهُ: "يا بنيَّ، عليكَ أنْ تتعلمَ كما تعلمتُ أنا، وأنْ تتعبَ وتشقى لتصلَ إلى ما وصلتُ إليهِ، وتنالَ ما نلتُهُ، وتكملَ المسيرَ، وتهتمَّ بالعائلةِ من بعدي".

​ردَّ عادلٌ: "إنْ شاءَ اللهُ يا والدي بعدَ عمرٍ طويل." ثمَّ سألَهُ السؤالَ الذي كانَ يترددُ في ذهنِهِ منذُ زمنٍ: "منْ أينَ لكَ هذا الثراءُ يا والدي، معَ أنَّ راتبَكَ كحارسٍ للمقبرةِ لا يتجاوزُ بضعَ مئاتٍ من الدراهم؟"

​ردَّ الأبُ بهدوءٍ وثقةٍ: "هذا ما ستتعلّمُهُ من تلقاء نفسِكَ. أما أنا، فواجبي أنْ أُعلّمَكَ أصولَ المهنةِ أولاً، ومنْ ثمَّ كيفَ تحمي نفسَكَ من الأمواتِ. وهنا يكونُ عملي وواجبي قدْ تمَّ."

​سايرَ عادلٌ حكمةَ والدهِ، وبدأَ في تعلّمِ المهنةِ. في صباحِ اليومِ التالي، ذهبَ الشيخُ معَ ابنهِ إلى المقبرةِ، وعلّمهُ كيفَ يحفرُ القبورَ، ويغسلُ الموتى، ويُصلّي عليهم. علّمهُ كيفَ تُبنى الأضرحةُ، وكيفَ تُكتبُ عليها، وكلَّ المهامِ المعتادةِ. كانَ ذلكَ درسَ اليومِ الأولِ.

​وفي اليومِ التالي، توجّها إلى المقبرةِ، وبداخلِ المكتبِ، أخذَ الشيخُ يعلّمُ ابنهُ الأذكارَ والصلواتِ، وكيفَ يَرقي نفسَهُ بالذكرِ والقرآن. ومنْ ثمَّ علّمَهُ كيفَ يتعاملُ معَ منْ كانَ يقومُ بخدمتِهم منْ أصحابِ القبور، مثلَ رشِّ الماءِ عليها وتنظيفِها وزيارةِ منْ تركوا منْ أهلِهم.

​وبعدَ عدةِ أسابيعَ، تعلّمَ عادلٌ من والدهِ كلَّ شيءٍ. وهنا، أيقنَ الشيخُ أنَّ ابنهُ أصبحَ جاهزاً ليأخذَ مكانهُ. فقرَّرَ التوجّهَ إلى بيتِ اللهِ الحرامِ لتأديةِ مناسكِ الحجِّ، فودّعَ الجميعَ، وغادرَ المدينةَ معَ القافلةِ، ليستلمَ عادلٌ أولَ ليلةٍ لهُ في المقبرةِ بمفردهِ.

تعليقات