حكاياتٌ من الذاكرة.. التحية العسكرية

بقلم د. ريم الحشار


في صباحات الذكريات والتي تعود بي إلى خريف العام 2017، افقت وابتسامتي تتلغب على مكر النعاس. والذي كان يراودني ويغريني لاكمال النوم والتمتع بنعمة العيشه الهنية. فما كان مني لرد مكره سوى أن ألجأ إلى وسائل التواصل الاجتماعي لمتابعة الجديد في الساحه الإجتماعية المحلية والخارجية وكان من بينها مشاهد لأماكن سياحية جميلة، فعادة بي الشجون لمدينة إيطالية عشقت رائحة هوائها، وقهوتها، وتلذذت بطعم حلواها ، لكن رحلتي لها كانت قصيرة جدا. 


وقلت فيها؛ 


أحتلى حلوى الفراق بمفردي


وأرتجي يوم لقياكِ بأعيوني


ذاب الفُؤاد وإعتمى نَاظري


وسَاب الفِكرُ في حَنين أَشواقي


وجرّت الذكرى حكاية كان بها من اللطف الكثير ، كما والصرامه والغضب. 

حكاية جمعت بين السفر وفؤائدة، وحمى الضنك! 


نعم فهي مُفارقه بين ذِكراي مع العم ابو فهد، وعلاقتي بالمعلومة التي شدت إنتباهي في السفر. كما وكيف تحولت علاقتي مع العم من النفور إلى التجليل بالتحية العسكرية! 


فما هي الحكاية:


بدأت معرفتي بالعم أبو فهد عندما كنت اعمل اكلينكيا في مجمع صحي يغطي عدد سكان في رقعه جغرافيه معينه. وكان من اختصاصات هذا المجمع هو متابعة صحة الاسر وبشكل دوري لتحسين مستواهم الصحي.


فقد كان العم ابو فهد هو احد افراد المجتمع الذي يتبع للمجمع الصحي وكان به احدى الامراض المزمنه والتي تستدعي فحوصات دوريه او سنويه, ولكن لم يخبره احد بذالك!


فاتيت وانا كلي حماس وبابتسامه, وكان العم ابو فهد طاعن فالسن ولكن صحته جيده. فكان العم طويل, عريض المنكبين, به لحية ويرتدي نظاره لتحسين النظر.


فقلت وأنا كلي سعاده وبعد الترحيب , وقد كان يرد الترحيب بنفور واشمئزاز:


عمي انت معك مرض مزمن.


قال: اعرف!


قلت: وتحتاج فحوصات دم دوريه!


واذا ببركان فائر وثوران وصوت عالي وهو يقول باللهجة العمانية:


أنا مافيني شي, أنتوا بس تبو تخلوا الواحد مريض، انا مافيني شي!


وأستمر وهو يحاجني أنه ذهب الى كل المستشفيات ولم يذكر له احد انه يحتاج لاي شي وانه سليم!


وأضاف انني دكتوره صغيره قليلة الخبره ولا اعرف شي!


كان الحوار معه شبه مستحيل واقناعه اصعب وتنافرنا وبدا للناظر الاختلاف الواضح وكان المشهد ينذر بقرع طبول حرب البسوس, ولكنني رغم ذالك كنت ادون له الفحوصات في البرنامج الطبي، لعل وعسى أن يستجيب ويحظر لعمل الفحوصات اللازمه! 


وفي يوم من الايام؛ حضر إلى المشفى برفقة إبنته في الفتره المسائيه وكانت به حمى طفيفه وضغطه عالي جدا!


وهنا سأعود إلى ذكرى السفر


فقد كنت قبلها بأسابيع عائده من سلطنة بروناي والتي إرتحلت إليها برغبه وجهد شخصي للإستثمار والتطوير العلمي والوظيفي للتقديم في الزماله البريطانية للطب العام والذي سبقته إستعدادات دراسية و تدريبية نظرية وإكلينيكيه, والتي كان للسفر فيها أيضا دور أساسي لحضور الورش التدريبيه والاستسقاء المعرفي من الخبرات العالميه المتنوعه. 


ففي سلطنة بروناي والتي تتميز بجوها الإستوائي ومن باب العلم بالشئ؛ فإن من أحد الأمراض إنتشارا في الرقعة الجغرافية؛ هو مرض الحمى الصفراء وهو مرض نزفي فيروسي حاد ينتقل بواسطة البعوض.


ورغم الإستعدادات التدريبة والدراسية! لكنني غفلت عن التبّحر في علم الوبائيات والخاص بالأجواء الأستوائية والرقعة الجغرافية. واذ بي اتفاجئ؛ في الإختبار الإكلينيكي بإحدى الحالات والتي تشكي عوارض حمى لا تنخفض بالمسكنات الحرارية وكانت مصابة بالحمى الصفراء!


وايضا من باب العلم بالشي؛ فالاختبار الكلينيكي لا يحتم على الطالب التشخيص النهائي, وانما يحتم علينا أخذ تاريخ مرضي مُفصل عن المريض لنتوصل لأقرب نقطه تشخيصيه للمرض وهذا ما يسمى بالتشخيص المبدئ؛ ثم علاجه او تحويل المريض للمختصين بناءا على التشخيص المبدئ.


وعوده للعم ابو فهد


فقد كانت تسبق زيارته لي في تلك الليله زيارات للمجمع بنفس الشكوى الا وهي حمى لا تنخفض بالمسكنات الحراريه! فاسترجعت هنا التدريبات المكثفه التي تعلمتها عن التاريخ المرضي، ووجوب متابعتي لأدق التفاصيل . وكان العم ابو فهد اقل حدة في الحديث نوعا ما وكان متجاوبًا في الرد على أسئلتي بعكس المعتاد!


وكان التحدي الذي يتملكني هو عدم وجود أي فحوصات ونتائج سابقه للعم ابو فهد وكان المختبر قد أغلق شباكه للفحوصات المبدئيه.


 وبعد توسل للعم ابو فهد اقتنع ان يتم تحويله للطوارئ في المستشفى المرجعي لأداء الفحوصات اللازمة!


وبدأت حكايته منفردًا مع قسم الوبائيات ودراسة الرقعة الجغرافية والتي تبين تسجيله كأولى الحالات التي كشفت عن انتشار بعوضة الزاعجة المصرية والمتسببه في المرض النزفي الفيروسي (حمى الضنك) وهو مرض مشابه للحمى الصفراء!


وهنا كان التاريخ المرضي التفصيلي الذي أخذته للعم ابو فهد؛ هو إحدى المستندات البحثيه التي إستخدمها قسم الوبائيات في وزارة الصحه لتحديد التشخيص بحمى الضنك.

 وكانت إحدى المعلومات التي أرفقتها في رسالة التحويل؛ هي ذكري انه صرح بلدغة حشره كانت من أيام، وكان به طفح جلدي بسيط!


لم أكن أعلم بهذه التفاصيل بحكم عملي في الفترة المسائية وإنشغالي حينها بالعمل ؛ ولكنني حين بأشرت العمل الصباحي وافتني إحدى الزميلات التي ذكرت لي إعجاب قسم الوبائيات بالسرد التفصيلي للتاريخ المرضي وان العم ابو فهد وبحكم انه خضع للتنويم في المستشفى لمده خمس ايام للسيطره على النزيف الداخلي الذي صاحب المرض؛ فقد كان كل ما رأي اي طبيب لا يذكر إلا إسم الدكتورة ريم والتي بدونها كان سيُحسب في عداد الأموات !


وبعد مرور أسابيع ؛ إلتقيت به في المشفى بعد أشهر من الحادثه. وكنت حينها  أمشي؛  فألقيت عليه التحية بيدي وكنت أنوي متابعة المسير لاحدى غرف العلاج. واذا به يقف من جلوسه واقفًا !  ليلقي علي التحيه العسكريه ويقول باللهجة المحلية : "انا لو ما إنت؛ كان متت"


فأبتسمت وقلت؛  لولا الله ثم الأسباب لما كنا الصدر الرحب،  والضميرالمسؤؤل، والمحب، لخدمتك وخِدمة المجتمع!

تعليقات