حارس المقبرة.. ​الفصل الرابع عشر

 بقلم: ناصر بن محمد الحارثي 

​الفصل الرابع عشر: صيحةٌ منْ عالمِ الصمتِ



​بعدَ آخرِ حادثةٍ في المقبرةِ، ازدادَ عادلٌ بربّهِ إيماناً ويقيناً، وازدادَ حكمةً وعلماً. لقدْ أدركَ أخيراً أنَّ هذا الإرثَ الذي تركهُ لهُ والدهُ لمْ يكنْ مجردَ كنوزٍ، بلْ كانَ كنزَ المعرفةِ والمواعظِ التي تستمدُّ نورَها منْ أهلِ الآخرةِ.

​صارَ عادلٌ معَ كلِّ يومٍ يتعلمُ أمراً جديداً يستفيدُ منهُ، ويفيدُ بهِ أهلَ بيتهِ والناسَ منْ حولِهِ. لقدْ أحبَّ عملَهُ أكثرَ فأكثرَ، فلمْ تعدِ الكنوزُ التي يجدُها أقلَّ أهميةً منَ الحكمِ التي يتعلمُها، بلْ صارتْ جزءاً منْ هذهِ الحكمةِ. حانَ وقتُ عودتِهِ للعملِ، وكانَ متشوقاً، فما أنْ وصلَ إلى المقبرةِ حتى رأى نوراً يسطعُ في الأفقِ. كانَ النورُ ينبعثُ منْ ناحيةِ مدخلِ المقبرةِ حيثُ تُدفنُ قبورُ الأطفالِ الصغارِ. علمَ أنَّ هناكَ أمراً جللاً ينتظرُهُ، فأسرعَ الخطى.

​لمْ يجدْ قبراً منيراً هذهِ المرةَ، بلْ وجدَ مجموعةً كبيرةً منَ الأطفالِ الصغارِ، وجوهُهمْ تُشعُّ بضياءٍ أخاذٍ، وقدْ تحلّقوا فيما بينهمْ، يتسامرونَ بلغةٍ لمْ يفهمْها. بقيَ عادلٌ يسترقُ النظرَ منْ بعيدٍ، إلى أنِ التفتوا إليهِ جميعُهمْ في نفسِ اللحظةِ، وقالوا بصوتٍ ملائكيٍّ: "تعالَ يا عمُّ."

​اقتربَ عادلٌ منهمْ، وألقى السلامَ، وجلسَ قريباً منهمْ. قالَ لهمْ: "ما خطبُكمْ يا صغار؟ وما قصتُكم؟"

​قالَ أصغرُهمْ: "هلْ علمتَ منْ نحن؟"

​أجابَ عادلٌ باستغرابٍ: "لا."

​قالوا جميعاً بصوتٍ واحدٍ، امتزجتْ فيهِ البراءةُ بالألمِ: "نحنُ اللقطاءُ المظلومونَ... نحنُ المتروكونَ المحرومونَ."

​انقبضَ قلبُ عادلٍ وهوَ يسمعُهمْ يكملونَ: "نحنُ نتيجةُ خطأٍ لمْ يكنْ لنا يدٌ فيهِ. متنا وبعضُنا قُتِلَ حتى لا يُفضحَ أمرُ منْ كانَ سبباً في مجيئنا لهذهِ الحياةِ. نحنُ أبناءُ خطيئةٍ، رُميَ بعضُنا في القمامةِ، وآخرونَ على أبوابِ الجوامعِ. انتهى بنا المطافُ إلى الموتِ، ومنْ عاشَ منّا، عاشَ ذليلاً منبوذاً في المجتمعِ لذنبٍ لمْ يقترفْهُ."

​بينما كانَ عادلٌ يستمعُ بخشوعٍ، تعالتْ أصواتُ البكاءِ منَ الأطفالِ. كانَ الجوُّ صافياً، وعمَّ السكونُ المكانَ لشدةِ الموقفِ.

​قالَ عادلٌ، وعيناهُ تلمعانِ بالدموعِ: "أنتمْ ضحايا المجتمعِ، وليسَ لكمْ ذنبٌ في كلِّ هذا. أنتمْ طيورُ الجنةِ."

​قالَ أحدُ الأطفالِ: "نعمْ يا عمُّ، لكنَّ الحزنَ والألمَ يعتصرانِنا، فنحنُ بلا أهلٍ يزورونَنا، أو يُلقونَ السلامَ علينا. جئنا إلى الدنيا غرباءَ، وتركناها سريعا كغرباءَ."

​بكى عادلٌ لحالِهمْ، وقالَ: "كيفَ لي أنْ أكونَ عوناً لكمْ؟"

​قالَ الطفلُة الصغيرةُ، وقدْ علا وجهَهُا نورٌ: "احملْ رسالتَنا للناسِ: "ألا تزرَ وازرةٌ وزرَ أخرى". اطلبْ منهمْ أنْ يتقوا اللهَ في الأطفالِ اللقطاءِ، وأنْ يعاملوهمْ كالبشرِ، فلهمْ حقُّ الحياةِ. ولْيخشَ الذينَ يرتكبونَ الحرامَ عقابَ اللهِ في فعلِهمْ. واطلبْ منْ أولياءِ الأمورِ أنْ يسهلوا أمورَ الزواجِ لأبنائِهمْ، حتى يعمَّ الحلالُ، ويصلحَ الناسُ والمجتمعُ."

​استغربَ عادلٌ حكمةَ الصغيرِة التي فاقتْ كلَّ حكمةٍ سمعَها منَ قبلُ، وقالَ في نفسِهِ: "لعلها رسالةٌ منَ اللهِ العليِّ القديرِ لي، لأرسلَها للناسِ."

​قالَ عادلٌ، وقدْ غمرَهُ إحساسٌ بالمسؤوليةِ: "أبشروا بالخيرِ يا طيورَ الجنةِ، إنْ شاءَ اللهُ، لكمْ ما سألتمْ."

​سكتَ الصغارُ، وعلتِ الابتسامةُ وجوهَهمْ التي أشرقتْ بالنورِ، ثمَّ اختفوا في جنحِ الظلامِ، وعمَّتِ السكينةُ المكانَ.

​حينها، وجدَ عادلٌ على قبرِ كلِّ واحدٍ منهمْ حجراً منَ الذهبِ. كانَ الذهبُ بارداً وثقيلاً في يدِهِ. نظرَ إليهِ، ولفّتهُ مشاعرُ جديدةٌ. لمْ يعدِ الكنزُ هبةً لهُ، بلْ صارَ أمانةً وعبئاً ثقيلاً. عادَ عادلٌ إلى غرفتِهِ، محملاً بالحكمةِ والذهبِ، وقصةٍ عظيمةٍ، ورسالةٍ مُقدَّسةٍ يجبُ أنْ يقرأَها على الناسِ، ليصلحَ بها المجتمعَ، ويغيرَ نظرتَهمْ لهذهِ الفئةِ المظلومةِ منَ البشرِ.

تعليقات