بقلم: ناصر بن محمد الحارثي
مضتْ أيامٌ عدةٌ على وفاةِ الشيخِ أبي عادلٍ، وعادلٌ يعملُ في صمتٍ. لمْ يحدثْ معه شيءٌ غامضٌ في المقبرةِ، كأنما الأرواحُ تنتظرُ منهُ أنْ يُثبتَ جدارتهُ. لكنَّه لمْ ييأسْ، بلْ كانَ يعملُ بإخلاصٍ ويُسلمُ على أهلِ القبورِ في كلِّ يومٍ، عاقداً العزمَ على أنْ يكونَ خيرَ وريثٍ لوالدهِ الحكيم.
وفي ليلةٍ اكتملَ فيها القمرُ، وتحوّلَ نورُهُ إلى ضوءٍ فضّيٍّ يغمرُ المقبرةَ، أنهى عادلٌ عملَهُ المعتادَ وعادَ إلى غرفتِهِ. ما إنْ دخلَ، حتى تجمدَ في مكانهِ. كانتْ تجلسُ على الكرسيِّ امرأةٌ شابةٌ فائقةُ الجمالِ، ببشرةٍ بيضاءَ مشرقةٍ، وعينينِ واسعتينِ كأنّهما عينَا غزالة، ووجهها مغطىً بحجابٍ أبيضَ ناصع.
شعرَ عادلٌ بالذعرِ، وارتجفَ جسدُهُ، لكنّهُ تمالكَ نفسَهُ وقالَ بصوتٍ خافتٍ: "بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ... هلْ أنتِ منْ البشرِ أمْ منْ أهلِ القبورِ؟"
ضحكتْ الفتاةُ ضحكةً عذبةً هزّتْ أرجاءَ الغرفةِ، وقالتْ: "وما ظنُّكَ أنتَ يا عادل؟"
ردَّ عليها عادلٌ: "أنتِ منْ أهلِ القبورِ على ما أظنُّ. لا يمكنُ لفتاةٍ أنْ تجرؤَ على المجيءِ إلى هنا في هذهِ الساعةِ منْ الليل."
قالتْ الفتاةُ: "نعمْ، أنا منْ أهلِ هذهِ الديار. جئتُ لأعاتبكَ على تقصيركَ معي."
تعجبَ عادلٌ وقالَ باستغرابٍ: "منْ أنتِ؟ وفيما قصَّرتُ؟!"
ردتْ الفتاةُ: "لمْ تزرني، ولمْ تُلقِ عليَّ السلامَ لفترةٍ طويلةٍ منذُ أنْ توفّيَ والدُكَ الشيخُ الطيبُ رحمهُ الله."
سألَ عادلٌ، وقدْ بدأَ الفضولُ يحلُّ محلَّ الخوفِ: "وكيفَ تعرفينَ والدي؟"
أجابَتْ الفتاةُ بنبرةٍ حزينةٍ: "ومَنْ لا يعرفُهُ؟ فقدْ كانَ خيرَ الأبِ الحاني، والرجلِ الطيبِ الذي أنقذني من الهلاك."
أدركَ عادلٌ أنَّ هذهِ الروحَ تحملُ قصةً أخرى من قصصِ والدهِ، فقالَ متلهّفاً: "وما قصتُكَ يا فتاة؟"
بدأتِ الفتاةُ تروي قصتَها، بصوتٍ هادئٍ ودافئٍ: "لقدْ كنتُ أعملُ راقصةً في دارِ خمرٍ سيئةِ السمعة. كانَ الرجالُ يركعونَ عندَ قدميَّ ويُلقونَ عليَّ الأموالَ، لكنني كنتُ أعودُ إلى البيتِ بعدَ كلِّ ليلةٍ لأُعينَ أهلي على مشاقِّ الحياةِ دونَ أنْ أمسَّ نفسي بسوءٍ. وفي يومٍ ما، طردني صاحبُ المكانِ لأني رفضتُ أنْ أبيتَ ليلةً معَ أحدِ زبائنهِ. ضربني ورماني في الشارعِ ككلبٍ ضال. جلستُ أبكي في الشارعِ، وحينها رآني والدُكَ منْ بعيدٍ، وجاءَ إليَّ وقالَ: 'مالكِ يا بنيتي؟'. استحيتُ منهُ في بادئِ الأمرِ، لكني لمستُ فيهِ الطيبةَ وارتحتُ لهُ، فقصصتُ عليهِ قصتي. قالَ لي: 'لا تخافي يا بنيتي، أنتِ في أمانٍ إنْ شاءَ اللهُ'. أخذني إلى بيتي، ورأى فقرَنا المدقع، فساعدَنا وأغدقَ علينا بالمالِ، وأعطاني عملاً في أحدِ محلاتِ القماشِ التي يملكُها صديقُهُ، ونصحني بالتوبةِ إلى اللهِ. أخذتُ بنصيحتِهِ، وارتديتُ الحجابَ، وعملتُ باخلاصٍ حتى تحسّنَ حالُنا."
وأضافتْ والدموعُ تنهمرُ منْ عينيها: "وفي يومٍ ما، لمحني أحدُ التجارِ الأشرارِ الذينَ كانَ يتردّدُ على المخمرةِ. لمْ يعرفني في البدايةِ، لكنّهُ عادَ مراتٍ كثيرةٍ حتى عرفَني. هدّدني بالفضيحةِ إنْ لمْ أمارسِ الرذيلةَ معهُ. رفضتُ وهدّدتُ أنْ أشتكيَهُ للوالي، فتوعدني بالانتقام. عدتُ إلى البيتِ أبكي، وفجأةً، ظهرَ رجلانِ متخفيانِ، خطفاني وقتلاني في الصحراء. وجدني أحدُ الرعاةِ وأخبرَ العسكرَ، فأخذوني إلى المقبرةِ، وغسّلَني والدُكَ بنفسهِ، ودفنني وهوَ يبكي ويقولُ: 'هنيئاً لكِ الجنةَ يا بنيتي، لقدْ قتلوكِ ظلماً وعدواناً'."
حزنَ عادلٌ حزناً عميقاً، ودمعتْ عيناهُ وهوَ يستمعُ إلى قصةِ هذهِ الروحِ البريئةِ التي فقدتْ حياتَها بسببِ كرامتِها. قالَ لها متأثراً: "ما حاجتُكِ مني يا فتاة؟"
قالتْ: "ليسَ غيرَ السلامِ والدعاءِ، فأهلي بخيرٍ، ولمْ يقصّرْ والدُكَ معهم." ثمَّ ابتسمتْ وقالتْ: "تذكّرْ يا عادلُ، أنَّ الحياءَ والتقوى والخشيةَ منْ اللهِ هما طريقُ الفلاحِ والنجاحِ في الدنيا والآخرة."
وقبلَ أنْ تختفي، همستْ في أذنِهِ: "اذهبْ إلى قبري وستجدُ ما يسرُّ خاطركَ."
خرجَ عادلٌ يبحثُ عن قبرها، ولمْ يتذكرْ اسمها. كانَ يبحثُ في كلِّ مكانٍ، حتى وجدَ قبراً مكتوباً عليهِ: "المرضيةُ بنتُ عبدِ اللهِ الخير". وجدَ بجانبِ الاسمِ حجراً كريماً يلمعُ مثلَ القمرِ ليلةَ البدرِ. أخذَهُ عادلٌ، ووقفَ عندَ القبرِ، وقامَ بتنظيفِهِ، ورشَّ عليهِ الماءَ، وقالَ: "شكراً لكِ أيتها المرضية، لنا لقاءٌ بإذنِ اللهِ تعالى."
عادَ عادلٌ إلى غرفتِهِ وهوَ يدركُ أنَّ كلَّ كنزٍ يجدهُ هوَ شاهدٌ على عملٍ من أعمالِ والدهِ الخفيةِ،والحجرُ الكريمِ هذه المرة دون القطع الذهبية إنما هو رمز الطُهر والعفاف، وأنَّ حكمةَ الشيخِ لمْ ترحلْ بوفاتِهِ. حمدَ اللهَ كثيراً وصلى ركعتينِ، ونامَ في سلامٍ ليصحوَ على يومٍ جديدٍ وقصةٍ جديدةٍ.

تعليقات
إرسال تعليق