بقلم: ناصر بن محمد الحارثي
في قَديمِ الزَّمان، وفي مَدينةٍ تُلامِسُها أمواجُ البَحرِ وتُعانقُها الجِبال، حيثُ يَنعُمُ أهلُها بِخَيراتٍ لا تُعدُّ ولا تُحصَى، عاشَ مَلِكٌ مُهابُ الجانبِ وذو سُمعةٍ طيّبة، يَعرفُ كُلَّ صغيرةٍ وكبيرةٍ في رعيّتهِ.
وفي يومٍ من أيّامِ الرَّبيعِ، تَقَدَّمَت بَقَرةٌ إلى قَصرِ المَلِك، وقالت بصوتٍ واثق: "أخبِروا المَلِكَ بأنِّي أُريدُ مُقابلتَه".
أمرَ المَلِكُ بأنْ تُدخَلَ البَقَرةُ، مُستغربًا من جُرأتِها، وقالَ لها: "لِتَأتِ لنَرى بأيِّ حَقٍّ هيَ هذهِ البَقَرةُ وما شأنُها".
قالت البَقَرةُ: "مولايَ، سَمِعتُ بأنَّكم تُوَزّعونَ أوسمةً، وأنا أريدُ وسامًا".
صَرَخَ المَلِكُ مُستنكِرًا: "بأيِّ حَقٍّ، وماذا قَدَّمتِ؟ ما نَفعُكِ للوَطنِ حتّى نُعطيكِ وِسامًا؟"
أجابَت البَقَرةُ بصَوتٍ مُليءٍ بالفخر: "إذا لم أُعْطَ أنا وسامًا فمَن يُعطَى؟ تَأكلونَ لَحمي وتَشربون حَليبي وتَلبَسونَ جِلدي، حتّى روثي لا تَتركونَهُ، تَجعلونَه سِمادًا لأشجارِكم".
فَكّرَ المَلِكُ قَليلًا، ثمَّ أدرَكَ حَقَّها، وأعطاها وِسامًا من المَرتبةِ الثّانية. عَلقَت البَقَرةُ الوِسَامَ على رَقبَتِها، وبينما كانتْ عائدةً إلى مَرعَاها، تَرقصُ فَرَحًا، التَقَتْ بالبَغلِ.
قالَ البَغلُ مُندهِشًا: "ما كُلُّ هذا الانشراحِ يا بَقَرة؟ ومِن أينَ أتيتِ؟"
قالت البَقَرةُ: "أخذتُ وسامًا من المَلِكِ".
هاجَ البَغلُ وذَهبَ إلى قَصرِ المَلِكِ، وأخذَ يَصرخُ عندَ بابِ القصرِ يُريدُ مُقابلةَ المَلِكِ، فمَنَعوهُ. لكنَّه بِعنادهِ المَوروثِ عن أبيهِ الحِمار، أبَى التَّراجعَ، فأخبروا المَلِكَ بأمرهِ، فقالَ: "فَلْيَأتِ".
ألقى البَغلُ سلامًا مُتَعجْرِفًا، ثمَّ قالَ: "إنَّهُ يُريدُ وسامًا".
قالَ المَلِكُ: "ما الذي قَدَّمتَهُ حتّى تَحصُلَ على وِسام؟ ماذا قَدَّمتَ للوَطنِ والمُواطنينَ؟"
أجابَ البَغلُ بِاعتداد: "ألسْتُ مَن يَحملُ مَدافِعَكم وبنادِقَكم على ظَهرِهِ أيّامَ الحَرب؟ ألسْتُ مَن يَركبُ أطفالَكم وعيالَكم ظَهْرَهُ أيّامَ السِّلْم؟ ألسْتُ مَن يَحملُ أكوامَ الحِجارةِ والرِّمالِ والطّينِ لِبناءِ قُصورِكم؟"
أعطى المَلِكُ البَغلَ وِسامًا من المَرتبةِ الأولى.
خَرَجَ البَغلُ في سَعادةٍ غَامرةٍ عائدًا إلى بَيتِهِ، فالتَقى بالحِمارِ وحَكى لهُ حِكايتَهُ.
قالَ الحِمارُ: "ما دامَ الأمرُ هكذا، سأذهبُ أنا أيضًا وآخذُ وسامًا".
وَرَكَضَ إلى القصرِ، صاحَ الحُرّاسُ فيهِ، لكنَّهم لم يَستطيعوا مَنعَهُ، فذهبوا إلى المَلِكِ وقالوا لهُ: "مُواطنُكم الحِمارُ يُريدُ المَثولَ بينَ أيديكُم، فهلْ تَفضّلتمْ بقبولهِ؟"
قالَ المَلِكُ: "ماذا تُريدُ يا مواطنَنا الحِمار؟"
أخبرَ الحِمارُ المَلِكَ برَغبتِه، فقالَ المَلِكُ وقدْ بَلغَ منهُ الغَضَبُ مَبلغَهُ: "البَقَرةُ تَنفعُ الوَطَنَ والرّعيَّةَ بلَحمِها وحليبِها وجِلدِها، والبَغلُ يَحمِلُ الأحمالَ على ظَهرِهِ في الحَربِ والسِّلمِ والبناءِ والتّعمير، وبالتالي فإنَّهُ يَنفعُ وَطنَهُ. ماذا قَدّمتَ أنتَ حتّى تأتي بحَماقتِكَ وتَمثُلَ أمامي دونَ حياءٍ وتَطلُبَ وِسامًا؟"
فقالَ الحِمارُ وهوَ يَضحكُ باستهزاءٍ: "رَحماكَ يا مولايَ، إنَّ أعظمَ الخَدماتِ هيَ تلكَ التي تُقدَّمُ إليكُم من مُستشاريكم الحَمير. فلو لم يَكُنِ الأُلوفُ من الحَميرِ مِثلي في مَكتبِكم، أفكنتمْ تَستطيعونَ الجُلوسَ على العَرش؟ هل كانتْ سُلطتُكم تَستمرُّ لولا الحمير؟ كذلك لو لم تَكُنْ رعيّتُكم من الحَمير، لما بَقِيتمْ في الحُكمِ يومًا واحدًا".
عِندَها أيقنَ المَلِكُ أنَّ الحِمارَ الذي أمامَهُ على حَقٍّ، ولن يَستحقَّ وِسامًا كَغَيرِه، وإنَّما تُفتَحُ لهُ خَزائنُ الإسطبلِ لِيَغرِفَ منها كما يَغْرِفُ غَيرُه من الحَميرِ.
تعليقات
إرسال تعليق