بقلم: فايل المطاعني
نظرت نادية من النافذة إلى الشارع، تراقب أطياف البشر وهي تمضي ذهابًا وإيابًا إلى أعمالها. وبين تلك الوجوه شدّ انتباهها رجل يتسلّل الشيب إلى شعره، يحمل طفلته الصغيرة على كتفه بفرح غامر وابتسامة عذبة.
سقطت دمعة ساخنة من عين نادية، وقالت بصوت مثقل بالشجن:
نادية: لو كان والدي حيًّا... لكنتُ ارتميت في حضنه مثل تلك الطفلة، ولما تعبت كما أنا الآن. كنت سأبوح له بكل شيء... آهٍ، لقد رحل من كنتُ أستند إليه.
أما حميد، فقد كانت الحُمّى تتسلل إلى جسده وتنهكه. وبينما هو في تلك الحال، لمح رسالة صوتية على هاتفه. ضغط التشغيل، فإذا بصوت يألفه قلبه قبل أذنه:
صوت نادية: الحمد لله على سلامتك... معافى بإذن الله.
شهق حميد غير مصدّق، وارتجف صوته:
حميد: هذا صوتها! نادية... والله هي نادية! رسالة منها... يا لحظي الكبير.
في تلك اللحظة، جلست نادية تلوم نفسها: لماذا بعثت له الرسالة؟ عقلها يوبّخها، وقلبها يبرر: هو مريض... كم وقف بجانبي! ألا يستحق سؤالًا؟
أما حميد، فأخذ يقلب هاتفه بين يديه، محتارًا:
حميد (يحدث نفسه): بماذا أردّ؟ "الله يسلمك"؟ أم "جزاك الله خيرًا"؟ الأولى فيها دفء، والثانية رسمية... سأكتب الاثنين معًا.
جلست نادية تحدّق في هاتفها، تنتظر الرد بلهفة. وما إن وصلتها رسالة صوتية حتى أشرق وجهها بابتسامة كبيرة أزاحت العبوس عنه.
نادية (تضحك بخجل): يا إلهي... يكفيني أن أرى اسمه، فيغمرني شعور جميل. لكن يجب أن أكون رزينة... ثقيلة. آه، يبدو أنني معجبة به...
أخذت تجوب الغرفة ذهابًا وإيابًا، ثم جلست على الكرسي مطأطئة الرأس، هامسة:
نادية: لكنّه متزوج! وأنا أرفض أن أربط حياتي برجل متزوج. مستحيل أن أكون سببًا في خراب أسرة.
ضحكت بمرارة، ثم التفتت إلى ساعة الحائط المدوّية كبرج "بيغ بن"، وقالت:
نادية: والله إنّه يُحبّ... لو كان هناك اثنان منه، لكانت الدنيا بخير.
فتحت النافذة فجأة، وصرخت باسمه:
نادية: حميـــــد!
ثم أغلقتها بسرعة، وهي تضحك بخفة:
نادية: أنا مجنونة... نعم، مجنونة بحبّه.
أما حميد، فقد كان غارقًا في حيرته. جلس يحدث نفسه:
حميد: ما الذي يجعلني مهتمًا بها؟ هي مختلفة... لا أخفي إعجابي بها. طيبتها؟ ربما. لكن زوجتي أيضًا طيبة، غير أن عصبيتها خانقة... أما نادية ففيها سكينة تشبهني. ربما أعجبني اسمها... أو صوتها وضحكتها التي تذيب القلب... وربما لأنها منحتني ما لم أجد عند زوجتي: الاهتمام... الصدق... الخيال...
ثم صفق بيديه وقال بحرارة:
حميد: يا حظي لو وافقت عليّ!
في المقابل، جلست نادية على سريرها، تمسك مخدتها وترسم عليها وجه حميد، تلمسه بحنان، وتهمس:
نادية: أنت تشبه أبي في حنانه... في خوفه عليّ حتى من الهواء. كم أتمنى أن تظلّ تحبني حتى وأنت عجوز... لكن، ما مصير هذا الحب؟ هو يظن أنني أتدلّل، والحقيقة أنني أذوب بكلماته. أحبّه، والله أحبّه... لكنّه ليس نصيبي.
ثم شهقت قائلة:
نادية: آه يا سعد... تعال وخلّصني من هذا الهم. خذني بكل مساوئك، المهم أن أهرب من حب حميد.
أما حميد، فقد ظلّ محتارًا. كان يعلم أن قلبه مع نادية، ويستطيع أن يفتح بيتًا ثانيًا، لكنه لم يشأ أن يضغط عليها. لقد رفضت عرضه بالزواج، وذلك الرفض زادها قدرًا في عينيه، وأكّد له أنها تحبه رغم ذلك.
صار حب نادية دافعًا له ليكون أبًا أفضل. يقضي وقتًا أطول مع أبنائه، يأخذهم كل جمعة إلى المنتزه أو السينما، ويزور معهم الأقارب. تعلّم أن الحياة لحظة حب، وأن الحب الحقيقي عطاء بلا انتظار.
لكن زينب، زوجته، لم تتركه من مسؤولياتها المعتادة. دخلت عليه قائلة بضجر:
زينب: حميد! وينك هالأيام؟ تسرح كثير وما تتكلم... عسى ما فيك شي؟ حميد؟ ما تسمعني؟
التفت إليها ببرود:
حميد: أيوه، أسمعك... تفضلي.
ابتسمت قائلة:
زينب: باكر عندنا اجتماع. جيب العيال من المدرسة، ولا تنسَ قائمة الأغراض. وبالمناسبة، الأسبوع الجاي بروح مسقط عند أختي، يعني دبّر نفسك بالأكل، ترى بأخذ العاملة معي...
ثم طبعت قبلة باردة على جبينه وقالت بخفة:
زينب: وحبيبي... ترى أريد فلوس، تعرف إذا رحت مسقط لازم أتسوق.
قال حميد بلا حماس:
حميد: اليوم نطلع؟
ردّت وهي تهمّ بالخروج:
زينب: اليوم مشغولة، صديقتي عبير ولدت، بروح أزورها.
فقال حميد:
حميد: خلاص... بروح بيت أمي.
ابتسمت بسخرية:
زينب: روح، بس لا تأخذ راحتك عند حريم إخوانك، فاهمني طبعًا؟
هكذا يمضي يوم حميد بين عمل ومسؤوليات وطلبات لا تنتهي... لكن دخول نادية حياته جعله يكتشف ذاته من جديد. صار للحياة طعم آخر: طعم الحب... طعم العطاء.
وفي ختام يومه، جلس حميد في حديقته يتأمل وردة السوسن التي سماها "نادية". مرّر أصابعه على أوراقها برفق، ثم ابتسم ابتسامة غامضة وهو يهمس لنفسه:
حميد: الحب امتحان... والقدر وحده سيكتب الإجابة.
أغمض عينيه، تاركًا قلبه معلّقًا بين عالمين... وبين امرأتين.
تعليقات
إرسال تعليق