​حارس المقبرة.. ​الفصل العاشر: سرّ المفتاح 

بقلم: ناصر بن محمد الحارثي 

عادَ عادلٌ إلى بيتهِ بعدَ صلاةِ الفجرِ، مرهقاً منْ عملِهِ في المقبرة. لمْ يكنْ يعلمُ أنَّ هذهِ العادةَ التي ورثَها منْ والدهِ ستجلبُ لهُ كلَّ هذا القدرِ منَ التجاربِ والمسؤولياتِ. أخذَ قيلولةً قصيرةً، فاستيقظَ على طرقٍ خفيفٍ على الباب. قالَ لأولادِهِ: "انظروا منْ بالخارجِ؟"

​إذا بها امرأةٌ عجوزٌ تقفُ أمامَ البابِ، ملامحُها تكسوها الهمومُ. خرجَ إليها عادلٌ وقالَ: "ما حاجتُكِ يا خالة؟"

​قالتْ بصوتٍ مخنوقٍ: "رحمَ اللهُ والدَكَ يا بُنَيّ. فقطْ لا تنسَ ولدي غيث."

​استغربَ عادلٌ وسألَها: "ومنْ ولدُكِ؟"

​لمْ تجبْهُ، بلْ كرّرتْ الجملةَ: "فقطْ لا تنسَهُ، أرجوكَ"، ثمَّ ذهبتْ منْ دونِ أنْ تقولَ شيئاً آخر.

​شعرَ عادلٌ بحيرةٍ ودهشةٍ، وقالَ في نفسهِ: "لعلها مجنونة." عادَ إلى دارِهِ، فقدْ كانَ اليومُ خميسًا، وغداً الجمعةُ إجازةٌ منْ العملِ في المقبرةِ.

​وفي اليومِ التالي، جاءتِ المرأةُ ذاتُها مرةً أخرى، وقالتْ الشيءَ نفسَهُ: "لا تنسَ ولدي غيث."

​سألَها عادلٌ بلهفةٍ: "منْ ولدُكِ يا خالة؟ أخبريني."

​أخذتْ تبكي بحرقةٍ ورحلتْ. هنا، أحسَّ عادلٌ أنَّ هناكَ شيئاً مهماً على وشكِ أنْ يحدثَ.

​مرّتِ الساعاتُ بطيئةً حتى حانَ موعدُ الذهابِ إلى المقبرةِ. دخلَ عادلٌ وسلمَ على أهلِها وبدأَ عملَهُ كالمعتادِ، لكنَّ شعوراً غريباً بالترقبِ لمْ يفارقْهُ. وبينما هوَ ينظفُ القبورَ منَ الحشائشِ اليابسةِ، أوقفهُ رجلٌ ضخمُ الجثةِ، أسمرُ البشرةِ، يلبسُ كفناً أبيضَ، وكأنهُ خرجَ منْ قبرِهِ للتوِّ.

​فزعَ عادلٌ، وارتجفَ جسدُهُ، واستعاذَ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيمِ.

​قالَ الرجلُ بصوتٍ حزينٍ: "تعالَ يا عادل، كنتُ بانتظارِكَ. لا تخفْ، كنتُ مشتاقاً."

​لأولِ مرةٍ منذُ أنْ بدأَ عملَهُ، شعرَ عادلٌ بالخوفِ الشديدِ. قالَ لهُ بصوتٍ متقطعٍ: "ما شأنُكَ بي؟ عُدْ منْ حيثُ أتيتَ."

​أجابَ الرجلُ بحزمٍ: "لنْ أعودَ قبلَ أنْ تعطيني حقّي."

​استغربَ عادلٌ وقالَ: "وما حقُّكَ أيها الرجل؟"

​أشارَ الرجلُ بيدِهِ، وقالَ: "اتبعني."

​تبعهُ عادلٌ وهوَ يمشي بخوفٍ، كانَ الرجلُ يسيرُ بينَ القبورِ بخفةٍ، كأنهُ يطيرُ في الهواءِ، حتى وصلا إلى أبعدِ جزءٍ في المقبرةِ، مكانٍ موحشٍ تعلوهُ أصواتُ الريحِ، وتحومُ حولهُ الخفافيش.

​قالَ الرجلُ: "انظر."

​اقتربَ عادلٌ بحذرٍ، ورأى قبراً مهجوراً وضريحاً قديماً متهالكاً. قالَ لهُ الرجلُ: "هذا بيتي وداري الذي أهملتَهُ وتركتهُ. بسببكَ، أنا أُعذَّبُ كلَّ يوم."

​أشعلَ عادلٌ شمعةً في القنديلِ، ورأى أنَّ المكانَ مهجورٌ تماماً، وأنهُ لمْ يصلْ إلى هذا الجزءِ منَ المقبرةِ منْ قبلُ؛ لأنها كبيرةٌ جداً.

​قالَ غيثٌ بصوتٍ حزينٍ، وهوَ يروي قصتهُ: "كنتُ أعيشُ في المدينةِ معَ والدتي. لمْ أرَ والدي أبداً. كنتُ قوياً وضخماً، ومعَ ذلكَ كنتُ جاهلاً؛ فلمْ أذهبْ إلى المدرسةِ مطلقاً. عملتُ منذُ صغري في التحميلِ والبيعِ، لكنَّ سوءَ الحظِّ كانَ يُلازمني. لمْ يكنْ لي أصدقاءُ، فكلُّ الأطفالِ كانوا يتجنبونني لفقري. لمْ يحبّني أحدٌ إلا والدتي. كنا فقراءَ، وفي يومٍ ما طُردتُ منْ كلِّ مكانٍ ولمْ أجدْ عملاً. حزنتُ لحالي وحالِ أمي التي كانتْ تعملُ خادمةً في البيوتِ. قررتُ أنْ أنتقمَ، فكنتُ أسرقُ منَ المسافرينَ وأعتدي على الأغنياءِ، ظناً مني أنَّ المالَ منْ حقّنا ما داموا لا يتصدقونَ. استمررتُ على هذهِ الحالِ حتى علمتْ والدتي، فنهرتني وطلبتْ مني التوقفَ."

​"قلتُ لها: 'يا أمّاهُ، إنَّ الناسَ لمْ يرحموا حالَنا، أفلا نعاملُهمْ بالمثلِ؟' فقالتْ لي كلماتٍ لنْ أنساها: 'يا بُنَيَّ، أنا ما سميتُكَ غيثاً إلا لأني دعوتُ اللهَ أنْ تكونَ كذلكَ. دعِ السرقةَ، واطلبِ المالَ الحلالَ، ولكَ ربٌّ كريم'."

​"خرجتُ منَ المنزلِ، وقررتُ أنْ أتركَ السرقةَ. ذهبتُ باحثاً عنْ عملٍ، فوجدتُ رجلاً جميلاً، حسنَ الهيئةِ والخلقِ. اقتربتُ منهُ وقلتُ: 'هلْ لي أنْ أكلمكَ يا سيدي؟' قالَ: 'تفضلْ يا بُنَيَّ'. كانتْ هذهِ أولَ مرةٍ يناديني فيها أحدٌ بـ 'يا بُنَيَّ'. شعرتُ بسعادةٍ غامرةٍ، وطلبتُ منْهُ أنْ أعملَ عندَهُ. وافقَ على شرطِ أنْ أكونَ مخلصاً وأميناً. ذهبتُ إلى والدتي أبشرُها، فقالتْ: 'ألمْ أقلْ لكَ إنَّ لكَ رباً كريماً؟' تبنا إلى اللهِ معاً، وأقسمتُ أنْ أبدأَ حياةً جديدة."

​"وفي اليومِ التالي، بينما أنا متوجهٌ إلى بيتِ الشيخِ الطيب، صادفتُ رئيسَ الحرسِ الذي كانَ يبحثُ عني. هجموا عليَّ وقاومتهُم، وأنا أقولُ: 'لقدْ تبتُ إلى اللهِ'. لكنهمْ تكاثروا عليَّ، وقتلوني في الساحةِ. وما آلمني أكثرَ، أنَّ أمي كانتْ ترى كلَّ شيءٍ وتدافعُ عني وهمْ يضربونَها. تركوا جثتي في الطريقِ ليجعلوا مني عبرةً للناس. ظلتْ أمي تبكي، ولا أحدَ يساعدُها حتى جاءَ والدُكَ الشيخُ وتحدثَ إلى والدتي. فأخبرتهُ قصتي، فقالَ بصوتٍ حنونٍ: 'لا بأسَ عليكِ يا أمَّ غيث'. أخذني بنفسهِ، وبعضُ الرجالِ، وغسّلني، ثمَّ نادى في الناسِ: 'يا أيها الناسُ، اتقوا ربَّكمْ الذي خلقَكمْ. هذا عبدٌ منْ عبادِ اللهِ، ذهبَ ليلقى ربَّهُ، فهلْ ستُصلّونَ عليهِ وتدفنوهُ؟' سكتَ الجميعُ، ثمَّ قالَ أحدهمْ: 'لكنهُ كانَ يسرقُ الناسَ.' فقالَ لهمْ والدُكَ: 'سرقَ لأنكمْ لمْ تُعينوهُ على نوائبِ الدهرِ، ولمْ تعطوهُ منْ صدقاتِكم. أنتمْ منْ ظلمتموهُ قبلَ أنْ يظلمَكمْ. الجوعُ كافرٌ، والشيطانُ تعهّدَ بالإضلالِ. أنتمُ منْ أخطأتمْ في حقِّهِ قبلَ أنْ يخطئَ في حقِّكمْ. أنتمْ منْ تركتُموهُ وأمَّهُ ليموتا منَ الجوعِ وأنتمْ تنظرونَ'. بكى الجميعُ بعدَ أنْ أدركوا تقصيرَهمْ. فصلى الجميعُ عليَّ، ودفنني والدُكَ هنا. كانَ يزورني ويُلقي عليَّ السلامَ، ويدعو لي ويتصدقُ منْ مالهِ، راجياً أنْ يغفرَ لي ربي. كنتُ في راحةٍ إلى أنْ توفاهُ اللهُ، ولمْ يزرني أحدٌ إلا والدتي التي رأتْ حالَ قبري ففزعتْ إليكَ."

​هنا، استوقفهُ عادلٌ، وعيناهُ تلمعانِ منْ أثرِ الدموعِ، وقالَ: "أنتَ غيث؟"

​أجابَ: "نعم."

​فقالَ عادلٌ: "زَارتْني والدتُكَ. لمْ تخبرني عنْ حالِكَ، فقطْ طلبتْ مني أنْ لا أنساكَ."

​قالَ غيثٌ: "نعم، والدُكَ فقطْ كانَ يعلمُ بحالِنا، وها هوَ قدْ فارقنا وبقيتَ أنتَ."

​قالَ عادلٌ، وقدْ امتلأَ قلبُهُ بالعزمِ: "لا تحزنْ يا غيث. منَ اليومِ، سأكونُ لكَ كما كانَ والدي، ولنْ أنساكَ أنتَ وأمَّكَ ما دمتُ حياً."

​هبتْ نسمةٌ باردةٌ، واختفتْ معَها أصواتُ الحيواناتِ، واختفى غيثٌ. فوجدَ عادلٌ على ضريحِ القبرِ ما لمْ يجدْهُ منْ قبلُ: مفتاحٌ كبيرٌ غريبُ الشكلِ.

​استغربَ عادلٌ وقالَ في نفسهِ: "يا سبحانَ الله!"

​أخذَ المفتاحَ وعادَ إلى غرفتِهِ، يتأمّلُه. أكملَ عملَهُ، ونامَ، واستيقظَ في الصباحِ ليقومَ بتنظيفِ قبرِ غيثٍ وترتيبهِ وزراعةِ الريحانِ حولهُ. دعا لهُ ثمَّ انصرفَ إلى بيتهِ.

بينما عادلٌ متوجه إلى بيتهِ في الصباحِ بعدَ أنْ أتمَّ عملَهُ، وحملَ في قلبهِ قصةَ "غيث" المؤلمةَ، وعقلهُ مشغولٌ بالمفتاحِ الغريبِ. وقبلَ أنْ يدخلَ إلى بابِ بيتهِ، وجدَ أمَّ غيثٍ تنتظرهُ، ودموعُها تسيلُ منَ السعادةِ.

​قالَ لها بلهفةٍ: "لماذا أنتِ هنا في هذا الصباحِ يا أمَّ غيث؟"

​قالتْ بصوتٍ يملؤهُ الشكرُ والعرفانُ: "يا بُنَيَّ، لقدْ زارني ولدي غيثٌ في المنامِ، ووجههُ يضيءُ بالنورِ، وقالَ: 'أبشري يا أمّاهُ، فأنا في سعادةٍ وهناءٍ. وأخبرني أنَّ حُسنَ الخاتمةِ هيَ كلُّ ما تمنّاهُ'. ثمَّ طلبَ مني أنْ أعطيكَ هذا الصندوقَ الذي كانَ في غرفتِهِ تحتَ السريرِ لسنينَ عديدةٍ. خُذْهُ فهو لكَ."

​أخذَ عادلٌ الصندوقَ وشكرَ أمَّ غيثٍ، وسألها عنْ حالِها، فقالتْ: "الحمدُ للهِ يا بُنَيَّ، أنا بخيرٍ بفضلِ اللهِ، ثمَّ بفضلِ والدكَ الطيبِ، والآنَ بفضلك." ثمَّ انصرفتْ في حالِ سبيلِها، تاركةً عادلًا يقفُ في ذهول.

​دخلَ عادلٌ المنزلَ، وأسرعَ إلى غرفتِهِ، ووضعَ الصندوقَ أمامهُ. نظرَ إلى القفلِ الكبيرِ، فتذكّرَ المفتاحَ الذي أعطاهُ إياه غيثٌ. أخرجَ المفتاحَ، ووضعهُ في القفلِ، ففتحَ الصندوقُ ببطءٍ. لمْ يجدْ فيهِ ذهباً أو فضةً، بلْ وجدَ فيهِ كنزاً حقيقياً منَ المشاعرِ: رسالةَ حبٍّ منْ روحٍ صافيةٍ، ودرساً في الإنفاقِ والصدقةِ.

​امتلأَ الصندوقُ بالذهبِ والفضةِ واللؤلؤِ الجميلِ، فحمدَ عادلٌ ربهُ على هذا الكنزِ العظيم. وفي تلكَ اللحظةِ، أدركَ حكمةَ والدِهِ العميقةَ. لمْ تكنْ الكنوزُ التي يجمعها منْ أهلِ القبورِ مجردَ هدايا عشوائية، بلْ كانتْ مكافأةً على عملِ خيرٍ قامَ بهِ والدهُ. كانَ كلُّ كنزٍ يأتيهِ هوَ ثمرةَ بذرةِ حُبٍّ وزرعِ إحسانٍ.

​تعهّدَ عادلٌ في نفسهِ أنْ ينفقَ كلَّ ما في هذا الصندوقِ على الفقراءِ والمحتاجينَ، وأنْ لا يجعلَ أحداً يمدُّ يدَهُ بالحرامِ. وتعلّمَ في هذا اليومِ درساً قيماً منَ الموتى: أنَّ الصدقةَ لا تموتُ، وأنَّ عملَ الخيرِ يظلُّ حيّاً حتى بعدَ أنْ يُوارى صاحبُهُ التراب.

تعليقات