"ألف موتةٍ صغيرة"

بقلم: حسين الشرقي 

لا تعودي اقرئيها كختمٍ على جثمانِ عهدٍ، كصفحةٍ قُطِعت من سفرٍ لا يعود:

لا تعودي، فليست العودة مجرد خطوةٍ عبر الباب، بل هي حفرةٌ تُحفر في صدري لأدفنَ فيها ما بقي منِّي،

أخشى أن تعودي فأجدُ في عينيكِ مقابرَ صغيرةً لكلِّ أحلامي التي شَيَّدتُها لكِ كأبراجٍ من رماد.

لا تعودي، لأنّ صوتكِ إن عاد فسيفتح الكُدَرَةَ القديمةَ التي جمعتُها بعنايةٍ كالمرآةِ المكسورةِ ليكتشف العالمُ وجهي على هيئةِ خسارةٍٍ متقنة.


لا تعودي، دعينا نحتفظ بالذكرى كما تحفظُ الجماجمُ أسماءَ رجالٍ كانوا يومًا ما،

دعِ الانفصالَ يكون طقسًا مقدسًا: أن نُحرقَ الماضيَ من دون أن نبصمَ على رمادهِ بقبلةٍ مزيفة.

لا تعودي، فأنا أحببتُكِ حتى عُدتُ كائناً يملكُ لائحةَ اشتراكاتٍ في الأوجاع، وكلما عُدتِ زادَتِ الفواتيرُ وتراكمتْ.


لا تعودي، فكلُّ مسافةٍ بيننا صنعتْ لي مرفأً صغيرًا ألوذُ به حين تهاجمني الذكريات،

وأنتِ إن عدتِ ستقصفينني بذكرياتٍ قديمةٍ حتى أكون لاجئًا في بلدي الذي لم أعد أعيشه.

لا تعودي، لأنّ لي الآن روتينًا قاتمًا أتمناه مقدسًا: أن أستيقظَ على غيابكِ، وأن أنهي يومي على وهمِ أنّك لم تكوني.


لا تعودي لا تُخترقي سجلي كمن يمرُّ بخزانةٍ ويعبثُ بالمذكرات:

ففي كل ورقةٍ رسمتُ وجهكِ، وفي كل سطرٍ سمتُه باسمِكِ، كُتبَ تاريخٌ لا يرغبُ في أن يُفتح ثانيةً.

لا تعودي، فإنّ عودتكِ ستجعل منّي منقّبًا عن أخطاءٍ قد دفنتها طويلاً، وستعيدينني إلى مواقعِ الضعفِ التي دربتُ نفسي على الهروبِ منها.


لا تعودي، دعي ليلي يحتفظُ بساعاتِهُ المنكسرةِ، ودعيني أرتّبُ جثثَ الأمسياتِ بيديَّ واحدةً تلو الأخرى 

لقد تعلمتُ كيف أذكّرُ ذاتي بنفسي في صمتٍ مبطّنٍ، كيف أزرعُ على خدّي قُبلةَ وداعٍ لا تُمحى، وكيف أكتبُ لستون رسالةً لا أرسلها.

لا تعودي، كي تبقى الكلماتُ قادرةً على أن تخونَني مرةً واحدةً فقط حين أقول وداعًا.


لا تعودي، فعودتكِ قد تكون عودةَ زلزالٍ يطمسُ ما تبقى من مبانٍ رقيقةٍ بنيتها بيديَّ،

لا تعودي لتدّعي أنّكِ تفتقدينني، فأنا أقلُّ ما أحتاجُه الآن هو غرفةٌ أخرى لتتخلّلها خطواتُكِ وتُعيد ترتيبَ جسدي كما تشائين.

لا تعودي، لأنّ الحبَّ الذي حملتكِ يومًا صار حجرًا في عنقِ يومي؛ إن حملته ثانيةً سيغرقني نهائيًا.


لا تعودي، واجعلي من رحيلكِ معبدًا لا يدخلُه إلا من قدر له أن يدفنَ أسمائه،

اذهبي، وحملي معكِ كل الأشياءِ التي تعلنُ عنكِ: قميصًا، شمعةً مطفأةً، ابتسامةً لم تعد تُصنعُ.

دعيني أكتشف نفسي في مرايا غيركِ، ألتقي صديقًا جديدًا اسمهُ نسيان، أتبنّاهُ كمن يرثُ طفلًا يتيمًا.


لا تعودي فليس في قلبي مكانٌ لاستقبالكِ كما كان،

لقد صقلتُ خرائطَ وجعي، وعلّمتُ ظلي كيف ينامُ وحده، وأبقيتُ للمساءِ مفتاحًا بلا قفلٍ كي لا تعودي وتجديني أفتحُ له أبوابَ الجريمةِ باسمِ الحب.


لا تعودي، هذا توقيعي الأخيرُ: أحببتُكِ حتى تحولت محبتكِ إلى لحنٍ لعينٍ لا يُمسكُ إلا بالسكين،

أغلقُ الآنَ آخرَ بابٍ، أضعُ فوقه ورقةً كتب عليها: "هنا دفنتُنا"، وأدفنُ المفتاحَ في جيبِ معطفٍ قديمٍ كي لا تعودي وتسرقيه.


اذهبي ولاتتحمّلي حَرَكي الذهني، ولا تصنعي من رحيلكِ مرةً أخرى عيدًا،

لا تعودي، لأنّني اخترتُ أن أموتَ ألفَ موتةٍ صغيرةٍ كل صباحٍ لأبقى حيًا مساءً.

تعليقات