بقلم :عصماء بنت محمد الكحالية
الطفولة ليست زمناً عبرناه، بل كيانٌ يظلّ يتربّص بنا في المنعطفات الخفية من العمر. إنّها أشبه بظلٍّ يتقدّمنا حين نزعم أننا نسير إلى الأمام، ويعود خلفنا حين نتوهّم أننا تجاوزناه. أشتاق إليها لا باعتبارها بيوتًا قديمة، أو أصواتًا غادرت، أو ألعابًا تكسّرت، بل باعتبارها البراءة التي لم نعرف أنّها أثمن من كل ميراث، والدهشة التي كنّا نبدّدها بلا حساب، كما لو أنّها نبع لا ينضب.
كل ذكرى تطرق بابي اليوم لا تعود كما هي، بل تلبس أقنعة جديدة، تتلوّن بصوت الفقد وملح الندم. ما أراه في صور الذاكرة ليس هو ما كان، بل ما غاب عني حين كان. كنتُ هناك بجسدي، لكنّ روحي لم تدرك أنّها تكتب أوّل فصول حنينها الأبدي.
أشتاق إلى السذاجة التي سمّيناها طفولة، إلى تلك اللحظة التي لم تكن تعرف الفرق بين الامتلاك والحرمان، حين كان الجرح يلتئم مع غروب الشمس، ولا يورث شيئًا من القلق أو التفسير. أشتاق إلى الضحك الذي لم يكن يختبئ خلف أقنعة، وإلى دمعةٍ كانت صادقة حتى في سقوطها العابر.
لكنّ الحنين، كلّما اشتدّ، يكشف لي خدعته الكبرى: أنّني لا أشتاق إلى الطفولة كما كانت، بل إلى طفولةٍ متخيَّلة، نسجها عقلي من شظايا مبعثرة، وصاغها قلبي على هيئة فردوس مفقود. فما الفرق إذن بين الذكرى والحلم؟ وبين أن تشتاق إلى ما مضى، أو تشتاق إلى ما لم يكن أصلًا؟
فهل نحن نشتاق حقًّا إلى طفولتنا… أم نشتاق إلى أنفسنا التي لم نلتقِ بها ؟

تعليقات
إرسال تعليق