بقلم: ناصر بن محمد الحارثي
في فجر يوم جديد، استيقظ عادل على وقع الحياة التي ألفها، حياة تتشابك فيها خيوط الدنيا والآخرة. لقد أصبح عمله في المقبرة جزءًا من كيانه، وشهدت عائلته تحوّله، فهمًا لحكمة عمله وتقبلاً له. اقتربت منه ابنته الصغيرة، بنظرة صافية كبركة ماء، وقالت ببراءة: "أبي، أشعر وكأن جدي لا يزال بيننا، فأنا أراه في عينيك".
ابتسم عادل، وشعر بأن كلماتها رسالة سماوية، تؤكد أنه يسير على خطى والده، يكمل رسالته في العطاء والحكمة. ورغم انشغاله بهموم المقبرة وأهلها، لم ينسَ ألم المحتاجين من الناس، فكان يمد يده لهم، قاضيًا حوائجهم قدر استطاعته.
لقد علّمته المقبرة أن العطاء لله يعود أضعافًا مضاعفة، وأن الإحسان للناس يزرع المحبة في القلوب. لم يكن عمله شقاءً، بل مدرسة من الحكمة في عالم الآخرة.
ومع اقتراب المساء، استعد عادل للذهاب إلى "منزله الثاني". عندما وصل، ألقى السلام على ساكنيها، ثم بدأ جولته اليومية، زائرًا من عرفهم ومن لم يعرفهم. لقد قرر أن يحوّل هذا المكان، الذي كان يرهبه الجميع، إلى حديقة غناء. زرع الريحان والياسمين، واعتنى بالأشجار، وقصّ الحشائش الضارة، ونظّف أعشاش الخفافيش، وعمل بجد ونشاط حتى غابت الشمس.
وعندما حان وقت الراحة، عاد إلى غرفته الصغيرة ليبدأ صلاته ودعاءه، كما أوصاه والده. بعد أن فرغ، سمع طرقًا خفيفًا على الباب. فتح، فلم يجد أحدًا، لكنه رأى أثر أقدام تلمع في الظلام، كأنه ضوء يتلاشى. تتبع الأثر، قاده إلى الجانب الغربي من المقبرة، حيث توقف عند ضريح كبير يعلوه صليب. أدرك أن المدفون هنا من غير المسلمين، لكنه لم يرَ أحدًا. قرأ الاسم على الشاهد: "جون ويكلر".
وما أن نطق بالاسم، حتى ظهر رجل يجلس فوق الشاهد. كان أبيض البشرة، أشقر الشعر، لم يرَ عادل مثله من قبل. تعجب عادل وقال: "السلام عليكم ورحمة الله، هل أنت من أهل القبور؟".
أجاب الرجل بهدوء: "وعليكم السلام ورحمة من الله وبركاته، نعم يا عادل. سامحك الله، لماذا لم تأتني من قبل؟".
قال عادل بدهشة: "وهل تعرفني؟".
أجاب الرجل: "وهل يخفى القمر؟".
زاد عجب عادل، وسأله: "من أين أنت؟ هل أنت غريب عن بلدنا؟".
أجاب الرجل: "نعم، أنا كذلك".
وهنا، بدأ الرجل يحكي قصته لعادل.
لقد جئت إلى هذه الأرض، قادمًا من الغرب لأتاجر وأتعلم لغتكم وتقاليدكم. لم أكن أعلم حينها أنني سأجد هنا أكثر من التجارة، بل سأجد أسرة وأخًا لم تنجبه أمي.
أخبره أنه كان صديقًا مقربًا لوالده التقاني والدك يا عادل، واستضافني في منزلكم القديم، رغم حاجز اللغة وانت يا عادل كنت في الثامنه من عمرك.
قال الرجل: "كان والدك أخي في الإسلام ومعلمي. لن أنسى فضله ما حييت. جئت لا أملك الكثير، لكنه استقبلني بقلب رحب. شغفه لتعليمي كان عظيمًا، ولم أخذله. تاجرت في البهارات والملابس والخيول، حتى أصبحت غنيًا. تعلمت لغة العرب والكثير عن الإسلام. كان دائمًا يدعوني ويدعو الله أن يهديني".
تأثرت بأخلاق والدك وكرمه، وقلت في نفسي: "هذا ما نفتقده في بلادنا". وفي يوم، أقبلت عليه وقلت: "يا أبا عادل، كيف لي أن أعتنق دينكم؟".
فأخذني والدك إلى بيته، وعلّمني الوضوء، ونطقت الشهادة. كان يومًا سعيدًا. اختار لي والدك اسم "عمر"، تيمنًا بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
عشنا في سعادة وهناء. وفي يوم، نصحني والدك بالزواج، فقلت "ومن ترضى بي؟ أنا غريب عن بلدكم". فأجابه: "لا تقلق، ستجد عروسًا تسعدك بإذن الله".
مضت الأيام، وانتشر مرض الحصبة في المدينة. مرضت، ولم تكن لدي مناعة كافية، ففارقت الحياة وحيدًا في منزلي. عندما علم الجيران، دفنوني هنا، ظنًا منهم أني غير مسلم، فلم يكن أحد يعرف بإسلامي إلا والدك وبعض التجار. في ذلك الوقت، كان والدك مريضًا في منزله، ولم يعلم بأمري إلا بعد أسابيع. وعندما بحث عن قبري، لم يجده، فقد مات كل من دفنني من المرض.
قال عمر: "بقيت وحيدًا، وخشيت أن أزور والدك بعد طول الغياب خوفًا من أن يخاف مني. ولكن عندما رأيتك في المقبرة وحديثك مع الآخرين، تشجعت أن أحدثك".
تعجب عادل من قصة الرجل الطيب، وسأله: "كيف لي أن أساعدك يا عم؟".
أجابه عمر: "أريد منك أن تزيل الصليب من على قبري، وأن تصلي عليّ. فأنا مسلم، بفضل الله ثم بفضل أبيك الطيب".
أجابه عادل: "إن شاء الله يا عم".
وما أن ودّعه عادل، حتى خرج من تحت الضريح نور يلمع، يضيء المكان كله. كان كنزًا من المال. سمع عادل صوت الرجل يقول: "هذا ورثي لك ولأبيك، فأنتم أهلي وأحبابي".
أخذ عادل الكنز، وعاد إلى غرفته، حاملًا كنوزًا من الأرض، وحكمة جديدة، ودرسًا في العطاء والدعوة إلى الله. وفي صباح اليوم التالي، بدأ عادل بالعمل، فأعاد بناء الضريح، وأزال الصليب وغيّر الاسم على الشاهد إلى "عمر ويكلر". ثم نادى أصحابه وأحبابه، وصلوا عليه صلاة الغائب.

تعليقات
إرسال تعليق