بقلم: ناصر بن محمد الحارثي
بعدَ أنْ نقلَ عادلٌ رسالةَ الأمِّ الحزينةِ عنْ عقوقِ الأبناءِ، ازدادَ حرصُهُ على استخدامِ منبرِ المقبرةِ لتحذيرِ الناسِ منْ كلِّ ما يُفسدُ عليهمْ دنياهمْ وآخرتَهمْ. لقدْ أيقنَ أنَّ وظيفتَهُ تتجاوزُ حراسةَ الأجسادِ، إلى حراسةِ القلوبِ منَ الذنوبِ المُهلكةِ. وانَّ كلَّ ما يمرُّ بهِ منْ تجاربَ ومواقفَ لا تخلوا منْ أنْ تكونَ رسالةً عظيمةً ومسؤوليةً جسيمةً على عاتقِهِ لإيصالِها للمجتمعِ ليُحافظوا على دينِهمْ وقيمِهمْ ومبادئِهمْ.
وفي ليلةٍ ظلماءَ، بينما عادلٌ منهمكٌ في عملِهِ في المقبرةِ، كانَ الجوُّ فيها مُحمّلاً بالضبابِ الثقيلِ وكأنَّ السماءَ تأنُّ، لمحَ عادلٌ نوراً مختلفاً ينبعثُ منْ قبرٍ في زاويةٍ مهجورةٍ. لمْ يكنْ نورَ الحكمةِ، بلْ كانَ وهجاً مُضطرباً. وعندما اقتربَ، كانَ جسمُهُ يقشعرُّ منْ رهبةِ المكانِ، فرأى روحَ رجلٍ ضخمِ الهيئةِ، ولكنهُ بدا مُنهَكاً ومتألماً، كانَ يئنُّ ويصرخُ بصوتٍ خافتٍ لا يكادُ يُسمَعُ، وكأنَّهُ مُكبّلٌ بسلاسلَ غيرِ مرئيةٍ.
اقتربَ عادلٌ وسلّمَ، وقالَ لهُ: "يا هذا، أسألُكَ بالذي خلقَكَ، ما هذا الألمُ الذي أراهُ فيكَ؟"
تحدثتِ الروحُ بصوتٍ أجشَّ مليءٍ بالندمِ: "أنا الظالمُ، أنا الهالكُ. يا حارسَ المقبرةِ، عشتُ حياتي بالقوةِ والجبروتِ، ونسيتُ أنَّ فوقي قوياً. لقدْ كنتُ أظلمُ كلَّ منْ حولي: الموظفينَ والعمالَ الذينَ أخذتُ حقوقَهمْ وابتززتُ قوتَ يومِهمْ، والجيرانَ الذينَ اغتصبتُ أرضَهمْ وأموالَهمْ، حتى أبنائي وعائلتي لمْ يسلموا منْ جبروتي. كنتُ أحسبُ أنني ملكتُ الدنيا، فملكتْني. كنتُ أعتقدُ أنَّ السعادةَ بالمالِ والسلطةِ والقوةِ، فأهلكتْني. وكذا مصيرُ كلِّ منْ يمشي على هذا الطريقِ."
بدأتِ الروحُ ترتعشُ، وهيَ تُكملُ: "الآنَ، لمْ أجدِ الراحةَ في قبري. كلُّ درهمٍ أخذتُهُ بغيرِ وجهِ حقٍّ يكبّلُني، وكلُّ دمعةِ مظلومٍ تُلهبُ روحي. إنَّني في عذابٍ لا ينقطعُ، أسمعُ أصواتَ دعواتِ المظلومينَ تترددُ في هذا القبرِ، وهيَ أشدُّ عليَّ منْ سياطِ النارِ."
سألَهُ عادلٌ، وعيناهُ تلمعانِ خوفاً وحزناً: "وماذا تُريدُ مني؟ فلنْ يُخلصكَ منْ عذابِكَ أحدٌ."
أجابتِ الروحُ بيأسٍ عميقٍ: "اذهبْ يا حارسَ المقبرةِ، وكنْ شاهداً على مصيري. أخبرِ الناسَ أنْ يتوبوا ويُعيدوا الحقوقَ لأصحابِها قبلَ أنْ يصلوا إلى هنا. قلْ لهمْ: احذروا دعوةَ المظلومِ، فإنَّها ليسَ بينها وبينَ اللهِ حجابٌ. أخبرهمْ أنَّ كلَّ ليلةٍ لي في هذا القبرِ هيَ درسٌ لمنْ ظنَّ أنَّ القوةَ تدومُ، وأنَّ الظلمَ لنْ يُنسى. ذكّرْهمْ بقولِ ربِّي: 'وما ظلمناهم، ولكنْ كانوا أنفسَهمْ يظلمونَ'." ثمَّ أردفتِ الروحُ برجاءٍ: "أنا لا أملكُ شيئاً لأهديكَ إياهُ، لا ذهبَ ولا مالَ. كنزُكَ الوحيدُ هوَ أنْ تحملَ رسالةَ العدلِ وتخبرَ الناسَ بقصتي علَّهمْ يرجعونَ إلى ربِّهمْ وعلَّهمْ يسامحونني فيُخففَ عنِّي العذابُ."
اختفتِ الروحُ، وبقيَ عادلٌ وحدهُ في الظلامِ، يُصارعُ هولَ المشهدِ. أدركَ أنَّ هذا اللقاءَ هوَ أثقلُ كنزٍ تلقاهُ على الإطلاقِ؛ كنزُ الحقيقةِ القاسيةِ بأنَّ العدلَ وتركَ الظلمِ هوَ أساسُ الراحةِ الأبديةِ، وأنَّ كنزَ القوةِ الوحيدِ هوَ أنْ تستخدمَها في إحقاقِ الحقِّ، لا في الظلمِ.

تعليقات
إرسال تعليق