"حارس المقبرة"  الفصل الثالث: أولُ ليلةٍ في مملكةِ الموتى

بقلم: ناصر بن محمد الحارثي 


​كانَ يومُ الجمعةِ يومَ الوداعِ. غادرَ الشيخُ أبو عادلٍ المدينةَ متوجهاً إلى الحجاز، واستلمَ ابنهُ عادلٌ مهامَ حراسةِ المقبرة العامة التي كانتْ تقعُ على أطرافِ المدينة. توجّهَ عادلٌ إلى المقبرةِ، واستلمَ الورديةَ من صاحبه، وهو يرى الشمسَ تختفي خلفَ الأفقِ كأملٍ يغادرُ قلبَهُ. بدأَ العملَ في أولِ ليلةٍ بمفرده، بينَ القبورِ التي تلوحُ شواهدُها في الظلامِ، وسكونِ الليلِ الذي كانَ أقسى من الضجيج.

​بدأتْ الأفكارُ والوساوسُ تدبُّ في قلبِ عادلٍ كعقاربَ باردةٍ. كلُّ صوتٍ، حتى حفيفُ الشجرِ، بدا لهُ كأنّهُ صدى لهمسٍ من تحتِ الترابِ. تذكرَ وصيةَ والدهِ: "لا تخفْ". بدأَ بالذكرِ وقراءةِ القرآنِ بصوتٍ مرتجفٍ، وهنا هدأتْ نفسُهُ قليلاً، وجلسَ في غرفتِهِ الصغيرةِ، لا يجرؤُ على النظرِ من النافذةِ خشيةَ أنْ يرى ظلاً أو يسمعَ صوتاً.

​استمرَّ هذا الحالُ معَ عادلٍ لثلاثةِ أيامٍ، وكلَّ ليلةٍ كانَ يعودُ إلى بيتِهِ مُنهكاً، ينامُ بعمقٍ حتى ما بعدَ الظهيرة، ليعودَ في الليلِ ويكملَ مسيرةَ الخوفِ بصمت. وفي الليلةِ الرابعةِ، وكانتْ ليلةً قمريةً جميلةً، بينما كانَ في غرفتِهِ يستمعُ للمذياعِ، سمعَ فجأةً أصواتاً غريبةً قادمةً من ناحيةِ المقبرة.

​دبَّ الرعبُ في قلبِهِ، وخرجَ ينظرُ من النافذةِ، فلا يرى شيئاً. لكنْ، عندها، سمعَ صوتاً ينادي من بعيد، كأنّهُ صوتُ طفلٍ صغيرٍ يبكي. أخذَ عادلٌ المصباحَ، وتوجّهَ إلى المقابرِ بخطواتٍ مثقلةٍ بالرهبةِ، يتبعُ الصوتَ حتى وصلَ إلى منتصفِ المقبرة.

​هنا، رأى طفلاً صغيراً يبكي بجانبِ قبرٍ، وكانَ عمرُهُ لا يتجاوزُ السادسةَ. سألَهُ عادلٌ بصوتٍ مرتعش: "من أنتَ؟ وماذا تفعلُ هنا؟"

قالَ الصغيرُ: "أنا اسمي سليم، وأنا أسكنُ هنا".

​نظرَ عادلٌ إلى شاهدِ القبرِ، ووجدَ اسمَ "سليم" منحوتاً عليهِ. لمْ تعدْ قدماهُ تحملانِهِ، وبدأَ يزحفُ هارباً من الرعبِ، لكنَّ الطفلَ ظهرَ أمامهُ فجأةً. قالَ لهُ الصغيرُ بابتسامةٍ حزينةٍ: "لا تخفْ يا عادل، لقدْ أخبرني والدُكَ عنكَ، وقالَ لي إنكَ ستكونُ صديقي الجديد."

​تنهّدَ عادلٌ وقالَ بصعوبة: "هل أنتَ حقاً ميت؟"

قالَ سليمٌ: "نعم، منذُ فترةٍ طويلة. وليسَ لي أصدقاءُ أو أحدٌ يزورني غيرَ أبيك."

​جلسَ عادلٌ على الأرضِ، وأخذَ يتمعّنُ في وجهِ الطفلِ الذي لا يشيخُ. قالَ لهُ: "منْ أخرجكَ من القبرِ؟ وكيفَ متَّ؟"

وهنا، بدأتْ الحكايةُ. أخذَ سليمٌ يقصُّ على عادلٍ قصةَ حياتِهِ المؤلمة: "كنتُ أعيشُ في البيتِ معَ أمي وزوجِها بعدَ وفاةِ والدي. كانَ يعاملني بقسوةٍ دائمةً، ويقسو على أمي أيضاً. لمْ أحبَّهُ، لكنّهُ كانَ منْ يوفرُ لنا لقمةَ العيش، ولم تتمكّنْ أمي من تركه. وفي يومٍ ما، بينما أنا أبيعُ الخضرواتِ، مرتْ سيارةٌ بسرعةٍ وصدمتني. أخذوني للمستشفى، لمْ أمتْ فوراً، لكنَّ العلاجَ كانَ غاليا، ولمْ يكنْ معَ أمي المالُ الكافي. رفضَ زوجُ أمي أن يدفعَ أيَّ مالٍ، حتى متُّ بينَ يديْ أمي في المستشفى، ودفنتُ هنا."

​صمتَ سليمٌ للحظةٍ، وتابعَ بدموعٍ: "كانتْ أمي تزورني كلَّ يومٍ، حتى منعَها زوجُها من زيارتي، فبقيتُ وحيداً لسنينَ طويلةٍ. كمْ تمنيتُ أن أرى أمي وأقبّلَ يديها، ولكنَّ الأمواتَ لا يعودون."

​حزنَ عادلٌ على قصةِ سليمٍ، وتأثرَ بها كثيراً. فقالَ سليمٌ: "لِمَ لمْ تزرني كما كانَ يفعلُ والدُكَ؟"

قالَ عادلٌ، وقدْ غلبهُ الشعورُ بالخجلِ: "وماذا كانَ يصنعُ والدي؟"

​أجابَ الصغيرُ: "لقدْ كانَ الأبَ الحانيَ الذي يزورني في كلِّ يومٍ، ويُسلّمُ عليَّ، ويقصُّ عليَّ القصصَ والحكاياتِ، ويضعُ الأزهارَ على قبري، وهدايا صغيرةً أحياناً. لقدْ كانَ نِعمَ الأبُ الحاني والصديقُ المخلصُ. لكنكَ لمْ تفعلْ ما قالهُ لكَ، ولمْ تزرني، لذا رأيتُ أنْ آتيَكَ بنفسي."

​حزنَ عادلٌ على ما فعلَ، وتذكرَ كلماتِ والدهِ. هنا، وعدَ عادلٌ الصغيرَ أنهُ سيزورُهُ كلَّ يومٍ كما كانَ يفعلُ والدهُ. وما إنْ انتهى من كلامهِ، حتى اختفى سليمٌ، ولمْ يبقَ منهُ غيرُ دخانٍ أبيضَ تلاشى أمامَ عينيه.

​وقفَ عادلٌ يلهثُ، وفي اللحظةِ التي كادَ يقعُ فيها من الرعبِ، لمحَ شيئاً يلمعُ على شاهدِ القبرِ. كانتْ قطعةً ذهبيةً صغيرةً موضوعةً بجانبِ اسمِ "سليم" وكأنَّها هديةٌ منهُ. أخذَها ووضعَها في جيبهِ، ثمَّ مضى إلى غرفتِهِ الصغيرةِ، ليعيشَ لحظاتٍ من الخوفِ والدهشةِ، وهوَ يحاولُ استيعابَ ما رأى وسمعَ تلكَ الليلة...

تعليقات