الأقراط بين الإذلال والتمييز الاجتماعي: من العبودية الإغريقية إلى القصور العثمانية

هناء درويش 


لطالما ارتبطت الزينة الشخصية عبر التاريخ بدلالات اجتماعية تتجاوز كونها مجرد مظهر جمالي. ومن أبرز الأمثلة على ذلك استخدام الحلق أو القرط كوسيلة للتمييز بين الطبقات والفئات المختلفة، حيث تحول في بعض الحضارات من رمز للزينة إلى أداة وسم وإشارة اجتماعية مرتبطة بالعبودية أو الخضوع.


الإغريق والرومان: الحلق كرمز للعبودية


في الحضارة الإغريقية والرومانية، لم يكن ارتداء الرجال للأقراط علامة على الوجاهة، بل كان في أحيان كثيرة وسيلة لإذلال العبيد الذكور. فقد كان يُجبر العبيد على ارتداء الحلق في آذانهم ليُعرفوا بسهولة عن الأحرار في المجتمع. هذه العلامة البصرية لم تكن مجرد تمييز، بل إشارة إلى انعدام الحرية والمرتبة الأدنى اجتماعياً، مما عزز النظام الطبقي الصارم الذي قام عليه المجتمع الروماني.


الصين والدولة العثمانية: الخصيان وخدمة القصور


أما في الصين، ثم لاحقاً في الدولة العثمانية، فقد ارتبط الحلق بفئة خاصة من العبيد تُعرف بالخصيان. كان هؤلاء الرجال يُجبرون على ارتداء أقراط في آذانهم لتحديد وضعيتهم الاجتماعية وتمييزهم عن بقية الخدم.

ميزة الخصيان أنهم وحدهم كانوا يُسمح لهم بالاختلاط بالجواري والإشراف على الحريم داخل القصور، لغياب الخطر الجنسي منهم. لكن رغم مكانتهم الخاصة داخل البلاط، ظلوا موسومين بعلامة ظاهرة في آذانهم لتأكيد وضعهم الاستثنائي المختلف عن الرجال الأحرار.


الدلالات الاجتماعية والنفسية


التمييز الطبقي: كان الحلق وسيلة لفرض نظام الفصل الاجتماعي بين الأحرار والعبيد.


الرقابة والسيطرة: وجود علامة مرئية سهّل على السلطات والأسياد مراقبة العبيد ومعرفة وضعهم.


الإذلال الرمزي: ارتداء الرجل للقرط كان في تلك السياقات ضد الصورة النمطية للرجولة، ما جعله يحمل بعداً نفسياً عقابياً.


المفارقة الحضارية: بينما كان الحلق في بعض الثقافات رمزاً للجمال والقوة (كالمصريين القدماء أو بعض قبائل إفريقيا)، تحول في هذه الحضارات إلى علامة إذلال وخضوع.


إن ارتداء الأقراط من قِبل الرجال في الحضارات القديمة لم يكن دائماً اختياراً جمالياً، بل ارتبط أحياناً بالعبودية أو الخصوصية الوظيفية. لقد جسّد الحلق في هذه السياقات أداة للوسم الاجتماعي والسيطرة السياسية، مما يكشف عن البعد المعقد للزينة في التاريخ الإنساني: فهي ليست مجرد ترف أو فن، بل لغة مشفرة تحمل في طياتها رسائل عن السلطة والحرية والهوية.


تعليقات