طبيب القلوب

بقلم : ناصر بن محمد الحارثي 


في زمن تتقدم فيه العلوم وتتسابق الأجهزة، ويُشار فيه إلى "جراح" و"دواء" كآلهة عصرية تملك مقاليد الشفاء، غاب عن الكثيرين درسٌ قديمٌ قدمَ الزمان نفسه. لقد أضاء المسلمون العرب بفضل علمهم طريق الطب، من ابن سينا إلى الرازي، لكنهم لم ينسوا للحظة أن أيديهم ما هي إلا أقلام تكتبُ وصفة، بينما يد الشفاء الحقيقية هي التي ترسمُ الخاتمة.

​مع كل قفزة في عالم الطب، يقفزُ معها الأمل الزائف في الخلود، فيُغرق البشر أنفسهم في بحرٍ من الملايين بحثاً عن مرسىً للعافية، ناسين أن شراع النجاة الحقيقي لا يُرفع إلا باليقين. لقد صارت العلاقة بين المريض وطبيبه سُلطاناً يملكُ القرار، بينما الحقيقة المحضة تهمسُ في الأذن: الشفاء قرارٌ سماوي، والدواءُ مجردُ قشةٍ نتشبثُ بها في يمّ القضاء.

​وهنا، يبرزُ دور "طبيب القلوب"؛ ذلك العاقلُ العارفُ بالله، الذي لا يرى في نفسه إلا أداةً طيعةً في يد الخالق. يخبر مريضه بصوتٍ يملؤه الإيمان أن دوره لا يتعدى كونه جسراً يعبرُ عليه المريض إلى بوابة الأمل، وأن الشفاء ليس إلا هبةً إلهية لا تُكتسبُ بالعلم وحده، وصدق الله العظيم إذ يقول على لسان خليله إبراهيم: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ). إنه يفتح نافذة اليقين في قلب المريض، ليُدرك أن الإيمان بالله هو الدواء الأعظم، وأن الروحَ قبل الجسد تحتاجُ إلى طبيب.

​ولأن الرسول الأعظم -صلى الله عليه وسلم- هو طبيبنا الأول، فقد ترك لنا وصفةً لا تُضاهى: "ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاءً، علمه من علمه، وجهله من جهله، إلا السام". قيل: وما السام يا رسول الله؟ قال: "الموت". فكان هذا الحديث نبراساً يُنير طريق الأخذ بالأسباب، ودرساً يُعلمنا أن نبحث عن الدواء في كل مكان، لكن قلوبنا يجب أن تكون معلقةً بمسبب الأسباب وحده، ذلك الذي بيده مفاتيح كل شيء.

​فلا العافيةُ تُنجي من الموت، ولا المرضُ يُعجِّلُ الأجل. كم من شابٍ في ربيع عمره تساقطت أوراقه في خريفٍ مفاجئ، وكم من شيخٍ هرمٍ أزهرت له الحياةُ من جديد. إن الموت حقيقةٌ صماء لا تعرفُ فارقاً بين غني وفقير، ولا تفرقُ بين ملك وخادِم. وصدق الله العظيم إذ يقول: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ).

​إنها دعوةٌ ليست للعجز، بل للاستعداد. دعوةٌ لنجعل كل خطوةٍ في الحياة رحلةً نحو اليقين، وكل نَفَسٍ استشعاراً لحكمة الخالق، فما هذه الدنيا إلا محطةُ عبور، و"طبيب القلوب" الحقيقي هو من يُعدّنا ليوم الرحيل، ليوم السفر الطويل الذي لا تعلم فيه نفس ماذا تكسب غداً، ولا تعلم نفس بأي أرض تموت.

تعليقات