بقلم : ناصر بن محمد الحارثي
قصة مأساة حيكت خيوطها في قرية بعيدة، تنام على كتف البحر، لا تزالُ تفاصيلها محفورة في ذاكرتي كوشمٍ أبدي. فقد كنتُ في الثامنة من عمري يومها، واليوم، وبعد أن جارتْ بي عقودُ الزمن، لا تزالُ حكاية أميرة مع "السنتوب" تُروى في كلِّ محفل، ولو كانت في بلادٍ أخرى، لبنوا لأميرةٍ تمثالاً يخلّدُ تلك القصةَ العجيبة.
هي قصةٌ يرويها العم حمد لأبنائه الصغار، وهم ينسجون حوله دائرةً من الشغف، أعينهم نجوماً ساهرةً على كلِّ كلمةٍ، وآذانهم شِفاهٌ مُلتاعةٌ لكلِّ همسة. قصةٌ رُفعت رايتها في طول البلاد وعرضها، أبطالها أحياءٌ، وأحداثها أخذت من كلِّ خيالٍ نصيباً.
وقعتْ أحداثُها في قريةٍ صغيرةٍ، نُسجت بيوتها من شباك الصيادين، وسكانُها كعقدٍ من لؤلؤ، تربطهم عروةٌ من نسبٍ وقبيلة. وفي بيتٍ بسيطٍ، عاشت بطلةُ قصتنا أميرة، وهي لم تزلْ في ربيعها السادس. كانت كفراشةٍ حانيةٍ تطيرُ في جنباتِ البيتِ لتُطرزَ على جدرانهِ فرحاً وسعادةً، وفي الحارةِ كانتْ زهرةً تستقبلُها كلُّ القلوبِ بترحيبٍ وودٍ. كان والدها صياداً، يرسلُ قاربهُ إلى صدرِ البحرِ كلَّ صباحٍ، ووالدتها كانت ربةَ بيتٍ، تنسجُ على نولِ الأيامِ دفءَ الأسرة.
كانت أميرةُ تحبُّ اللعبَ معَ صديقاتها، وعندما يُبحرُ والدُها، كانتْ تقفُ على شاطئِ البحرِ كطائرٍ صغيرٍ يرقبُ عودةَ عشه. كان والدُ أميرة رجلاً طيباً وحكيماً، يلبسُه الجميعُ حبًّا واحتراماً. وكلما عادَ من رحلةِ الصيد، أحضرَ لأميرة أصدافاً بحريةً وقِطعاً من المرجان، وكأنها كنوزٌ من أعماقِ المحيطِ. كانت أميرةُ تعانقُ هدايا والدها، والبراءةُ تملأُ عينيها الجميلتين كقمرٍ في ليلةِ صيف.
وفي أحدِ الأيام، بينما كانَ والدُ أميرة في رحلةِ صيدٍ، هبّت عاصفةٌ شديدةٌ، وكأنَّ السماءَ تفتحُ أبوابَ غضبِها. ارتجفَ قلبُ أميرةَ خوفاً على والدها، وأخذتْ تدعو ربَّها بدمعةٍ: "يا رب، أعدْ والدي سالماً ليحضرَ لي هديةً." وبعد ساعاتٍ، عادَ والدُ أميرة منهكاً، وكأنهُ عادَ من معركةٍ طاحنةٍ، ولم يكنْ معه شيءٌ من الصيدِ بسببِ العاصفة. حزنتْ أميرةُ لأنها لم تحصلْ على هديتها، لكنَّ فرحتها بعودةِ والدها كانتْ أكبرَ من كلِّ حزنٍ.
مضتْ عدةُ أيامٍ ولم يخرجْ أحدٌ للصيدِ، حزنتْ أميرةُ وقالتْ لوالدها بلهجةِ طفلٍ حزين: "لِمَ لا تخرجُ للصيدِ يا أبي، وتحضرُ لي هديةً؟" قال الوالدُ بعطفٍ وحنانٍ: "إن شاء اللهُ عمّا قريب، لكن قد لا أتمكنُ من إحضارِ الهدايا في كلِّ مرةٍ يا ابنتي." غضبتْ أميرةُ لأولِ مرةٍ من هذا الكلام، وقالتْ: "بل أريدُ هديةً في كلِّ مرةٍ تغيبُ فيها!" سكت الأبُ، وكأنَّ كلماتِها سكيناً في قلبه، وغادرَ البيتَ بهدوءِ الليل.
في اليوم التالي، وبعد أن انقشعتْ غيومُ العاصفةِ، استعدَّ والدُ أميرة للخروجِ، وعينا أميرةَ الصغيرتان تراقبانِهِ من بعيدٍ.
مضى اليومُ، إلى أنْ أوشكتِ الشمسُ على الانتحارِ في الأفق، وعندها عادَ والدُ أميرة ومعهُ الكثيرُ من السمكِ الذي أهدتهُ إياه رحلةُ الصبر. وبعد أن استراحَ من تعبِ الرحلةِ، وأميرةُ بجانبهِ تنتظرُ الهدية، لم يُعرها اهتماماً حتى أخذتْ بالبكاء. عندَها قالَ لها: "تفضلي يا صغيرتي، هذه لكِ."
فإذا هي بعبوةٍ صغيرةٍ صفراءَ، لم ترَ أميرةُ مثلها من قبلُ، وبها سائلٌ يلمعُ كذهبٍ. سألتْهُ: "ما هذا يا والدي؟" أجابَ: "لا أدري، فقد مرّتْ بجانبنا سفينةٌ كبيرةٌ، فيها أجانب وسُياح، رحّبوا بنا وأعطونا بعضَ الماءِ والتفاحِ وهذه العبوةَ العجيبة."
للقصة بقية...

تعليقات
إرسال تعليق