من الذكريات

 بقلم: فايل المطاعني


لكلٍّ منّا صندوقٌ خفيّ، يخبّئ بين طيّاته ما تبقّى من الذكريات. هناك من يمتلك شجاعة البوح بما فيه، وهناك من يوارب الغطاء ويُحكم الإغلاق، خشية أن ينكسر القلب إن انسكبت أسراره.

إهداء: إلى المرأة التي ضحّت ومنحت، لكن القدر لم يمنحها فرصة استكمال عطائها.

هند كامل – العراق

كان ذلك في أحد أيّام مارس الربيعية، داخل بيت بغداديٍّ عريق يعجُّ بالأنغام والضحكات. كنتُ بصحبة صديقي محمد صالح، أو كما يحب أن يُلقّب نفسه: محمد العراقي. ومن لا يعرفه، لا يعرف كم هو خصم لدود لذاك الكائن البديع الذي نسمّيه المرأة؛ إذ لا ينفكّ يسخر من أنوثتها، ويسمّيها بلسانه الجارح الحرمة، ملتفّة بعباءتها السوداء، تلك التي يراها شبحًا لا روحًا. يصف رحلتها الثلاثية ببرود: من بيت والدها، إلى بيت زوجها، ثم إلى السماء... ولستُ هنا بصدد الخوض في سواد أفكاره، إذ بيني وبينه معركة أبدية، نشتبك فيها كلّما التقينا. وكما يقول العُمانيون في مثل هذه الحال: الموضوع حباله طويلة.

وفجأة، وقفت أمامي فتاة لم تتجاوز الرابعة والعشرين ربيعًا. همست بصوت ناعم متهدّج بالأدب:

ــ "الأستاذ فايل؟"

كان تفخيمها لحرف الفاء يكشف صعوبة في نطق اسمي، فلم أملك إلا أن أبتسم وقد أطربني وقع صوتها.

أجبتها برفق: "نعم، أنا هو."

ابتسمت بخجل عراقيٍّ أصيل، وقالت في حياء: "أريد أن أتحدّث إليك في أمر." ثم نظرت نحو صديقي.

فرحتُ بسؤالها وقلت متبسّمًا: "أأنتِ عراقية؟ لهجتك وثقتك بنفسك تشي بأنك من بلاد الرافدين."

لم تجب، لكنها هزّت رأسها، فانفرطت خصلات من شعرها الذهبي، كأنها سنابل قمحٍ ساعة حصادها، فأضفت على ملامحها وهجًا سماويًا. ثم قالت بنبرة رقيقة: "أنا نصف عراقية، من الأم... ونصف خليجية من الأب." ولم تُكمل، فقد ارتبكت من نظرات محمد الحادّة، تلك التي تنفّر النساء رغم وسامته.

حاولتُ كسر الصمت فابتسمت ساخرًا: "بردت قهوتي، على أي حال... وهذا سرٌّ بيني وبينكم: أنا لا أحبّ القهوة أصلًا." ثم التفتُّ إلى صديقي قائلاً: "يبدو أن عشتار لديها ما تبوح به." ركلتُ رجله خفية لأحثّه على ترك المكان، وما إن نهض حتى لمحتُ بريق الحسد في عينيه الخضراوين؛ فليس كل كاتب يحظى بجلسة كهذه.

ولعلّكم تتساءلون: كيف أصف لكم محدّثتي؟

الحقيقة أنّي لست بارعًا في رسم ملامح النساء، لكنّني وجدت فيها شيئًا من سحر الفنانة هند كامل، غير أنّها كانت أكثر دلعًا وترفًا. حين حيّتني بلهجة عراقية مترفة، شعرت أن حضارتين التقتا في عينيها، فغدت أيقونة من أيقونات الجمال.

بعد لحظات قالت بثقة: "اسمي ريم صالح." ثم أضافت مازحة: "الجنيّة."

فأدهشني لقبها وقلت في سرّي: ما أجمل أن أكون معروفًا عند الجن!

لكن حالها تبدّل فجأة. نظرت إلى ساعتها التي قاربت منتصف الليل، فانتفضت واقفة كأنها سندريلا أدركتْها اللحظة الفاصلة. على عجل همست برقم هاتفها، وغادرت الحفل مسرعة، تاركةً في قلبي فراغًا مربكًا.

تبعتها بنظري أفتّش عن أثرها، أترقّب حذاءً زجاجيًا قد يسقط خلفها، فأحتفظ به تذكارًا. لكني عدتُ إلى نفسي أتمتم: أكان هذا حلم يقظة... أم بداية حكاية لم تُكتَب بعد؟


✦ الهوامش:


هند كامل: ممثلة عراقية شهيرة.


عشتار: آلهة الجمال والحب في حضارة بلاد الرافدين.


مثل عُماني قديم: الموضوع حباله طويلة، يقال عند اشتداد الخلاف وتشعّب النقاش.


تعليقات