بقلم : حسين الشرقي
ما بين لقمة العيش ومصاريف البيت، يخوض الآباء حروبًا لا يراها أحد، لا يسمعها إلا صدى القلب، ولا يقدّرها سوى الله وحده. إنها حروب بلا أعلام، بلا هتافات، بلا شهرة أو ثناء، لكنها أشد وأعمق من أي معركة يمكن أن يتخيلها البشر. في صمت الفجر قبل أن يفتتح العالم يومه، يكون الأب قد بدأ كفاحه، ليس طلبًا للمال وحده، بل سعيًا للحياة التي يستحقها أبناؤه، لحماية أرواحهم من جوعٍ محتمل، وحرمانٍ لم يختاروه، وخوفٍ قد يداهمهم بلا سابق إنذار.
كل ريال يُصرف، وكل لحظة تُنهك، هي رسالة صامتة تقول: "أنا هنا من أجلكم، مهما كلفني الأمر". وعند كل ضحكة طفلة أو ابتسامة طفل، يختفي التعب قليلًا، لكنه لا يزول، لأنه يظل معلقًا في الجدران، في الأنفاس، في كل قرار يومي يتخذونه، في كل وجبة تُحضر، في كل حاجة تُسد. الأم، هي الجندي الذي لا ينهار، لكنها تحمل صمتًا أثقل من الحديد، وقلقًا أعمق من أي بحر. كل دمعة لم تُرَ، كل لحظة خوف مكبوتة، هي حصن للأمان الذي تمنحه لأولادها، حتى لو لم تشعر بالراحة أبدًا.
إنها حرب بلا نهاية، لأن الأبناء يكبرون، والمطالب تتضاعف، والحياة تبتكر دائمًا طرقًا جديدة لتختبر صبر الإنسان. ومع ذلك، يبقى الوالدان صامدين، يحملان على أكتافهما عبء الحاضر ومستقبل الأبناء، ويزرعان الحب في قلب كل ضحكة، والصبر في كل لحظة انتظار.
الذي يجعل هذه الحرب أقدس ما في الحياة ليس الجهد وحده، بل أنها مبنية على شيء لا يُقاس، لا يُرى، ولا يُقايَس بالذهب أو بالسلطة: هو الحب المطلق، التضحية الكاملة، والإيمان العميق بأن كل تعب يُحتَمل، وكل قلق يُصبر عليه، سيؤتي ثماره يومًا ما في حياة أولادهم، في قلوبهم، وفي روحهم التي ستكبر قوية وراسخة، مدركة أن وراء أمانها صمت طويل من الحب والوفاء.
في النهاية يظل الوالدان كالشمس التي تشرق وتغيب دون أن تطلب اعترافًا أو شكرًا، تنير طريق الأبناء بصمتها، وتدفئ أرواحهم بصبرها، وتزرع في نفوسهم القوة دون أن يشعروا، لتصبح كل لحظة فرح، كل خطوة نجاح، شهادة صامتة على الحروب التي خاضها من أحبهم أكثر من نفسه، على المعارك التي لم تُروَ إلا في أعماق الروح، وحسب الله على مقياسها.
تعليقات
إرسال تعليق