بقايا المروءة

 بقلم : هناء درويش


كان "عم عبد الحميد" يجلس كل صباح أمام دكانه الصغير في حارة قديمة تآكلت جدرانها، يبيع ما تبقى من بضاعته البسيطة: علب السجائر، وأكياس البسكويت، وزجاجات المياه الغازية.

لم يكن يشغل باله كثيراً برزق اليوم، بقدر ما يشغله التغير الذى رآه يتسلل إلى الوجوه.

منذ عشرين عاماً، كان يعرف كل من يمر أمامه بالاسم، يعرف ضحكة "الحاج جابر" من وقع خطواته، ويدرك أن "أم سعيد" حين تبتسم فإنها تخفي خلفها يداً امتدت خفية لتضع في يده كيس طعام، وكأنها تقول: "خذ، ولا تردّ".

أما الآن، فقد صار المارّون يشيحون بوجوههم. الشباب يمشون والهواتف في أيديهم، والعجائز يغلقون أبوابهم بإحكام كأن العالم صار غابة. حتى التحية الصباحية صارت عملة نادرة.

ذات مساء، بينما كان يغلق دكانه، رأى شاباً يركض، وخلفه صوت امرأة تصرخ:

"حرامي! سرق مني الحقيبة!"

لم يتردد عم عبد الحميد، انطلق بخطواته البطيئة لكن المثقلة بعزم قديم، وأغلق الطريق على الشاب. التقت أعينهما، وفي لحظة خاطفة قرأ في عينيه الخوف أكثر من الجريمة.

قال له بصوت خافت:

 "ارجع لها الحقيبة يا ابني... مش عشانها، عشان نفسك."


توقف الشاب لبرهة، ثم ألقى الحقيبة أرضاً وفرّ هارباً.

اقتربت المرأة، أخذت حقيبتها، لكنها لم تنطق بكلمة شكر. اكتفت بنظرة باردة، ثم ابتعدت.


عاد عم عبد الحميد إلى دكانه، وأغلقه ببطء. جلس على الكرسي الخشبي العتيق، وحدّق في الفراغ. تمتم بصوت مبحوح:

"حتى الشكر بقى عملة نادرة... يا زمن!"

ثم ابتسم ابتسامة حزينة، وأشعل سيجارة، وكأنه يدفئ بها قلبه من صقيع الأخلاق الذي غزا الحارة.

تعليقات