بقلم: حسين الشرقي
كلّما نظرتُ في المرآة، لا أرى ملامحي كما هي الآن، بل أرى الطفل القديم يطلّ من أعماقي. طفلٌ كان يحمل قلبًا أكبر من سنّه، وعينين تتسعان للأحلام كلها، ثم تركته الأيام في مواجهة ما لا يحتمل.
طفولتي لم تكن حكاية تُروى على أريكة المساء، بل كانت صندوقًا من الندوب المخبوءة. تعلمتُ مبكرًا أن الدمع لا يحتاج إلى إذن، وأن الحزن يعرف جيدًا طريقه إلى قلب صغير. في وقتٍ كان أقراني يركضون خلف الكرة، كنتُ أركض خلف شعور بالأمان. في وقتٍ كانوا يتعلّمون الأغاني البريئة، كنتُ أتعلّم الصمت، وأحفظ وجوه الخيبات عن ظهر قلب.
كبرتُ وفي داخلي ذلك الطفل الذي لم يجد كتفًا كافيًا ليبكي عليه. كلما تقدّمتُ خطوة في حياتي، تذكّرت أنني ما زلت أحمل على ظهري حقيبة طفولة مثقلة بالأسئلة: لماذا لم يكن هناك من يفهم خوفي؟ لماذا اضطررتُ إلى التظاهر بالقوة وأنا لم أكن سوى غصنٍ هشّ يتكسّر بأقل هبّة؟
لكنني اليوم وأنا أكتب عنّي، أعرف أن تلك الطفولة القاسية صنعت شيئًا آخر بداخلي. علّمتني أن أكون صلبًا حين ينهار الآخرون، وأن أُخفي دموعي كي أواسي غيري. أعطتني عينًا تقرأ وجع الناس حتى دون أن يتكلموا، وقلبًا يعرف أن الحزن ليس عيبًا، بل دليل على أننا بشر.
إن الطفولة، مهما حاولنا الهرب منها، تظلّ تعيش فينا. قد تكبر أجسادنا، لكن الطفل في الداخل لا يكبر. يظل يذكّرنا بما فقدناه، وبما ما زلنا نحلم به: حضنٌ آمن، كلمة صدق، يدٌ تمسح على الرأس وتقول "لا بأس".
أكتب عني وعن طفولتي لأنني أخشى أن يضيع صوت ذلك الطفل وسط ضجيج الحياة. أكتبه ليبقى حاضرًا، لا كجرحٍ فقط، بل كدليل على أنني اجتزت الظلمة، وما زلتُ أمشي
تعليقات
إرسال تعليق