بقلم: ناصر بن محمد الحارثي
قِطَارُ الأَحْزَانِ لَيْسَ كَسَائِرِ القِطَارَاتِ، بَلْ هُوَ مَرْكَبٌ مُنْذُورٌ لِلْيَائِسِينَ وَمَأْوَى مَنْ خَذَلَتْهُمْ الحَيَاةُ. خُصِّصَ لِفِئَةٍ مِنَ البَشَرِ نَسِيَتْ مَعْنَى الأَمَلِ وَسَلَّمَتْ قُلُوبَهَا لِقَسْوَةِ الدُّنْيَا. مَحَطَّتُهُ تَغِيبُ عَنْ أَنْوَارِ المُدُنِ، لَا يَهْتَدِي إِلَيْهَا إِلَّا مَنْ تَجَلَّلَ اليَأْسُ رُوحَهُ، فَهِيَ تَجْثُمُ فِي قَلْبِ غَابَاتٍ مُوْحِشَةٍ وَمُسْتَنْقَعَاتٍ مُخِيفَةٍ. عِنْدَ نَافِذَتِهَا اليَتِيمَةِ، تَتَمَثَّلُ رُوحٌ كَغَيْمَةٍ سَوْدَاءَ، تُسَلِّمُكَ تِذْكِرَةَ رُكُوبٍ لَا تَحْمِلُ وَعْدَاً بِالعَوْدَةِ.
قِطَارُ الأَحْزَانِ قَدِيمٌ كَالزَّمَنِ وَمُهْتَرِئٌ، يَنْفُثُ مِنْ جَوْفِهِ دُخَاناً أَسْوَدَ خَانِقاً، وَيَتَخَفَّى بِلَا رَقْمٍ أَوْ اسْمٍ أَوْ عُنْوَانٍ. نَوَافِذُهُ البَالِيَةُ مُغَشَّاةٌ بِالغُبَارِ، كَأَنَّهَا عُيُونٌ عَمْيَاءُ لَا تَرَى الضَّوْءَ. مَقَاعِدُهُ مِنْ صَخْرٍ أَصَمَّ، لَا تُغْنِي عَنْ تَعَبٍ، وَأَنِينُهُ لَيْسَ صَوْتَ عجلات، بَلْ هُوَ شَهِيقُ آلامِ اليَائِسِينَ. يَقُودُهُ رَجُلٌ عَجُوزٌ نَحَتَتْ السَّنَوَاتُ عَلَى مَلَامِحِهِ خَرِيطَةَ اليَأْسِ، أَعْمَى عَنِ الأَمَلِ وَأَخْرَسُ عَنِ الكَلَامِ، كَأَنَّهُ تَجْسِيدٌ لِكُلِّ حُزْنٍ فِي هَذَا القِطَارِ.
رُكَّابُ هَذَا القِطَارِ هُمْ مَنْ تَرَكُوا مَوَائِدَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَشَقَّ عَلَيْهِمْ قَسَمَاتُ زَيْفِهَا. هُمْ أُنَاسٌ أَثْقَلَتْهُمْ الهُمُومُ، وَخَذَلَهُمْ صَدِيقٌ أَوْ قَرِيبٌ. لَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَلَاذٌ، فَتَطَوَّقَهُمْ اليَأْسُ وَأَحْكَمَ الشَّيْطَانُ حَوْلَهُمْ حِبَالَاً شَائكَةً، فَفَرُّوا مِنْ شَقَاءِ الدُّنْيَا لِيَلْتَحِقُوا بِقِطَارٍ يَحْمِلُهُمْ إِلَى اللَّاشَيْءِ.
سَعِيدٌ هُوَ ضَحِيَّةُ قِصَّتِنَا، شَابٌّ فِي السَّابِعَةِ وَالعِشْرِينَ مِنْ عُمْرِهِ، تَتَابَعَتْ عَلَيْهِ سَنَوَاتُ الفَرَاغِ بَعْدَ تَخَرُّجِهِ مِنْ الجَامِعَةِ، وَبَقِيَ فِي كَنَفِ وَالِدِهِ المُتَقَاعِدِ كَغَيْمَةٍ سَوْدَاءَ تُظِلُّ عَلَى مَنْزِلِهِمْ. زُمَلَاؤُهُ تَوَظَّفُوا وَتَزَوَّجُوا وَبَدَأُوا حَيَاةً، وَهُوَ لَا يَزَالُ سَجِيناً لِيَأْسِهِ، عَالِقاً فِي بِئْرِ البَطَالَةِ العَمِيقَةِ. لَمْ يُفَارِقْهُ الفَقْرُ، وَحَاوَلَ بَيْعَ الشَّايِ وَالمَشَاكِيكِ فِي الشَّوَارِعِ، لَكِنَّ الحَظَّ السَّيِّئَ كَانَ لَهُ بِالمِرْصَادِ. لَمْ يَلْبَثْ أَنْ رَحَلَتْ أَنْوَارُ بَيْتِهِ وَانْقَطَعَ المَاءُ، فَعَلَتْ صَيْحَاتُ اليَأْسِ فِي دَاخِلِهِ، وَهُوَ عَاجِزٌ تَمَاماً عَنْ المَقَاوَمَةِ، فَشَدَّ رِحَالَهُ لِرِحْلَةِ الفَنَاءِ الأَخِيرَةِ.
وَبَيْنَمَا سَعِيدٌ يَتَخَبَّطُ فِي طَرِيقِ المَحَطَّةِ، يَرَى سُلَيْمَانَ، صَدِيقَ وَالِدِهِ، وَحَالُهُ يُشْبِهُ حَالَهُ. عَلِمَ أَنَّهُمَا يَسِيرَانِ عَلَى نَفْسِ الدَّرْبِ، حَامِلَيْنِ تِذْكِرَةَ الذَّهَابِ بِلَا عَوْدَةٍ. اسْتَوْقَفَهُ سَعِيدٌ بِصَوْتٍ مُرْتَعِشٍ: "إِلَى أَيْنَ يَا عَمَّاهُ؟" أَجَابَهُ سُلَيْمَانُ بِنَبْرَةٍ خَاوِيَةٍ: "إِلَى مَحَطَّتِي الأَخِيرَةِ يَا بُنَيَّ." سَأَلَهُ سَعِيدٌ فِي دَهْشَةٍ: "لِمَاذَا؟ أَنْتَ تَمْلِكُ بَيْتاً وَزَوْجَةً وَأَبْنَاءً! لِمَ تَسْلُكُ هَذَا الطَّرِيقَ؟"
أَجَابَهُ سُلَيْمَانُ وَصَوْتُهُ يَحْمِلُ خَيْبَةَ السِّنِينَ: "بَعْدَ تَقَاعُدِ وَالِدِكَ، أَخَذْتُ مَكَانَهُ، لَكِنَّ الفَرَحَةَ لَمْ تَدُمْ. بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، طُرِدْتُ مِنْ وَظِيفَتِي دُونَ سَابِقِ إِنْذَارٍ. بَقِيتُ أُعَانِي مِنْ دُيُونٍ كَالجِبَالِ، فَبِعْتُ بَيْتِي وَعُدْتُ إِلَى قَرْيَتِي. ضَاقَتْ بِي الحَيَاةُ وَصِرْتُ عَاجِزاً، فَلَمْ أَجِدْ سَبِيلاً لِلنَّجَاةِ مِنْ يَأْسِي إِلَّا أَنْ أُغَادِرَ الدُّنْيَا عَسَى أَنْ أَجِدَ سَكِينَتِي."
اسْتَمَرَّ الاثْنَانِ فِي مَسِيرِهِمَا وَكَأَنَّ قُوَّةً خَفِيَّةً تَسْحَبُهُمَا، حَتَّى وَصَلَا إِلَى المَحَطَّةِ المُوحِشَةِ، بِثِيَابٍ بَالِيَةٍ تَفُوحُ مِنْهَا رَائِحَةُ اليَأْسِ. وَجَدَا أَمَامَهُمَا طَابُوراً مِنْ البَشَرِ يَقِفُونَ فِي طَوَابِيرَ مُتَعَرِّجَةٍ. بَيْنَهُمْ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ وَأَطْفَالٌ. وَمَا الَّذِي يَفْعَلُهُ طِفْلٌ فِي هَذَا الخِضَمِّ؟ الطِّفْلُ مَازِنٌ، ذُو السَّبْعِ سَنَوَاتٍ، يَتِيمٌ مُصَابٌ بِالتَّوَحُّدِ، فَقَدَ وَالِدَيْهِ وَعَاشَ فِي كَنَفِ عَمِّهِ وَزَوْجَتِهِ، لِيَلْقَى أَنْوَاعَ العَذَابِ وَسُوءِ المُعَامَلَةِ وَالتَّنَمُّرِ. ضَاقَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا، فَسَمِعَ صَوْتَ قِطَارِ الأَحْزَانِ يَنْعَاهُ مِنْ بَعِيدٍ، لِيَتْرُكَ البَيْتَ وَيَلْتَحِقَ بِرَكْبِ اليَائِسِينَ.
وَصَلَ سَعِيدٌ إِلَى شُبَّاكِ التَّذَاكِرِ، فَاسْتَلَمَ تِذْكِرَةَ الذَّهَابِ بِلَا عَوْدَةٍ لِرِحْلَتِهِ الأَخِيرَةِ. تَوَجَّهَ بِخُطُوَاتٍ مَثْقَلَةٍ بِالهَمِّ نَحْوَ القِطَارِ، وَهُوَ يَرَى أَدْخِنَتَهُ السَّوْدَاءَ تَمْلَأُ السَّمَاءَ كَغَمَامَةٍ مِنْ يَأْسٍ. بَعْدَ صَافِرَةِ القِطَارِ المُدَوِّيَةِ، الَّتِي هِيَ أَشْبَهُ بِنَعْيِ غُرَابٍ حَزِينٍ، تُفْتَحُ الأَبْوَابُ لِيَرْكَبَ المُسَافِرُونَ بِهُدُوءٍ وَسَكِينَةِ المَوْتَى، مُتَّجِهِينَ نَحْوَ مَقَاعِدِهِمُ الحَجَرِيَّةِ فِي ظُلْمَةٍ مُطْبِقَةٍ. جَلَسَ سَعِيدٌ فِي كُرْسِيِّهِ، يَتَأَمَّلُ وَجْهَهُ المُنْكَسِرَ فِي النَّافِذَةِ كَمِرْآةٍ لِضَيَاعِهِ، وَدُمُوعُهُ تَرْسُمُ خَرِيطَةَ مَصِيرِهِ.
للقصة بقية...

تعليقات
إرسال تعليق