بقلم . فايل المطاعني
كان الدكتور هاني يتفحّص أوراق التحاليل بعناية، ثم رفع بصره فجأة قائلاً بحدّة:
الدكتور هاني: يا ممرضة نادية… نادية!
نادية (بهدوء): نعم يا دكتور.
الدكتور: كم مرة سحبتِ عيّنة دم من المريض "حميد"؟
نادية: لم أسحب أي عينة، لأنك لم تُدوّن ذلك في الوصفة.
ارتفع حاجبا الدكتور بدهشة وقال بنبرة استغراب:
الدكتور: كيف ذلك؟! معقول أنني لم أكتب؟! كان ينبغي أن تؤخذ منه ثلاث زجاجات دم.
انتفض "حميد" محتجًّا بصوت مبحوح:
حميد: ثلاث زجاجات؟! يا ظالم… ثلاث؟! لماذا؟
ابتسم الدكتور ابتسامة حازمة وهو يجيبه:
الدكتور: ظالم؟! هذا كله من أجل صحتك… الأولى لفحص الدماغ، والثانية لفيتامين (د)، والثالثة لفحص الوراثة… وربما نحتاج شيئًا بسيطًا من النخاع أيضًا.
ارتبك "حميد" وتراجع بخوف:
حميد: النخاع؟! ولماذا النخاع؟!
الدكتور: لا تقلق… الأمر بسيط جدًا إن تطلّب ذلك يا باشمهندس.
وحين نطق الدكتور كلمة باشمهندس لاحظ كيف ارتسمت على وجه حميد ملامح راحة واطمئنان، كأنها أيقظت شيئًا مألوفًا في داخله.
التفت الدكتور إلى نادية، التي كانت تتابع الموقف في صمت، وقال بنبرة متفحّصة:
الدكتور: على فكرة يا نادية… حاولي أن تناديه باسم "راشد".
نادية (مبتسمة بخفة): لا تقلق يا دكتور، لقد فعلت ذلك قبل أن توصيني.
أمعن الدكتور النظر فيها ثم سألها بجدية:
الدكتور: هل سمعتيه يذكر زوجته… أولاده… أو أحدًا من أقاربه؟
نادية: أبدًا، لم يأتِ على ذكر أحد.
فأطرق الدكتور رأسه، وتمتم في داخله بسخرية حزينة:
"طبيعي… لن يذكر زوجته. فالمرء ما إن يجد فرصة لينسى أثقاله حتى يتمسك بها. ربما كانت حياته معها عبئًا ثقيلاً، حتى صار فقدان الذاكرة بالنسبة له خلاصًا. يا حميد… كأنك وجدت منفذًا لم نجده نحن. لكن صدّقني… الذكريات والوجوه القديمة ستلحق بك، فالهروب وهمٌ لا يدوم."
غير أن نادية قطعت شروده قائلة:
نادية: دكتور، لقد قال كلمة واحدة فقط.
الدكتور (باهتمام): وما هي؟
نادية: "متى أخرج؟"
الدكتور (مبتسمًا): يخرج إلى أين؟! إن المشوار ما زال في بدايته… لكنه رجل صلب، لا يُغلب بسهولة، وسنُخرجه كما يريد، أقوى مما كان.
ومضت الأيام، واستمر حميد في تلقي العلاج، بينما أخذت نادية تلاحظ شيئًا فشيئًا أثر وجودها عليه… وأثر وجوده فيها.
لقد كان يعشق الورد مثلها، حتى خصّها كل صباح بوردة سوسن يضعها بين يديها كإشارة صامتة. وكان يحدثها عن مغامراته في الطيران والفضاء بشغف، وعن مشروعه لاستخلاص عطرٍ من الزهور، مؤمنًا أن "الورد لغة الأرواح".
ومع كل كلمة وكل ابتسامة، اكتشفت نادية أن هذا الرجل يختلف عن غيره؛
هادئ، متزن، ذو حضور يفرض نفسه، وثقافة تُغني الحديث.
كان يبدأ يومها به… وينتهي به.
شيئًا فشيئًا، وجدت نادية نفسها أمام اختبار لم تعشه من قبل.
فكلما التقت عيناهما، شعرت برجفة خفية تجتاحها، وكأن قلبها يبوح بما يعجز لسانها عن قوله. كانت تراقبه وهو يتحدث عن أحلامه، فتشعر أنها تغرق في بحر لا شاطئ له.
لقد رأت فيه رجلاً متميزًا، يجمع بين عقل العالم ووجدان الشاعر.
فحين يتكلم، كانت الكلمات تخرج منه كما يخرج اللحن من آلة موسيقية، فتُسحرها قبل أن تُقنعها.
ولم تكن تُبدي ذلك، لكنها في أعماقها كانت تترقّب كلمة واحدة منه، كلمة غزل صريحة، كفيلة بأن تُشعل روحها.
وكانت كل مساء تُغلق دفترها الأبيض على جملة واحدة تتمتم بها لنفسها:
"أيّ رجل هذا؟! لقد أسرني بصمته… فكيف إن نطق؟!"
وفي ختام هذا اليوم، حين ساد الصمت المستشفى، جلست نادية إلى النافذة تحدق في السماء، وهي تشعر بأن شيئًا في قلبها قد بدأ يتحرك… شيئًا لا تعرف له اسماً بعد، لكنه وعد بحياة جديدة، وبقصة ستكتبها الأيام بين قلبين… ربما تكون حكاية عشق تتخطى كل العوائق.
تعليقات
إرسال تعليق