بقلم: ناصر بن محمد الحارثي
قِيلَ إِنَّ المَوْتَ خَطٌّ فَاصِلٌ لَا يَرْحَمُ؛ يَمْحُو سَطْوَةَ القَوِيِّ، وَيَهْدِمُ ضَعْفَ الضَّعِيفِ، يَكْسِرُ صِحَّةَ الصَّحِيحِ، وَيُسْكِنُ آلَامَ السَّقِيمِ. بِهِ تَنْتَهِي كُلُّ الحِكَايَا، وَتُغْلَقُ كُلُّ فُصُولِ الحَيَاةِ.
وَلَكِنَّ فِي خَلْقِ اللهِ مُعْجِزَةً لَا تَنْتَهِي، تَتَجَلَّى فِي سَيِّدِ البِحَارِ وَالمُحِيطَاتِ، الحُوتِ الأَزْرَقِ العَظِيمِ، أَكْبَرِ كَائِنٍ حَيٍّ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ. جَسَدُهُ الَّذِي يَمْتَدُّ ثَلَاثِينَ مِتْراً، وَوَزْنُهُ الَّذِي يُنَاهِزُ مِئَةً وَسَبْعِينَ طَنّاً، وَقَلْبُهُ الَّذِي يَزِنُ مِئَةً وَثَمَانِينَ كِيلُوغْرَاماً، وَيَعِيشُ حَتَّى تِسْعِينَ عَاماً، لَا يَمُوتُ عَبَثاً. إِنَّهُ يُدْرِكُ قُرْبَ النِّهَايَةِ كَفَارِسٍ يُسَلِّمُ سَيْفَهُ، فَيَمَّمُ وَجْهَهُ شَطْرَ الأَعْمَاقِ المُظْلِمَةِ فِي رِحْلَةٍ أَخِيرَةٍ، غَوْصٌ مَهِيبٌ يُعْرَفُ بِـ"سُقُوطِ الحُوتِ".
يَنْقَضِي أَجَلُهُ فِي أَعْمَاقِ المُحِيطِ البَعِيدَةِ، وَفِي البِدَايَةِ، تَنْهَشُ جَسَدَهُ الَّذِي كَانَ يَوْماً مَهَاباً أَسْمَاكُ القِرْشِ وَثَعَابِينُ البَحْرِ، فِي وَلِيمَةٍ تَمْتَدُّ لأَيَّامٍ عِدَّةٍ. وَحِينَما يَذْهَبُ جَسَدُهُ وَلَحْمُهُ وَيَبْقَى القَلِيلُ، تَأْتِي الدِّيدَانُ الصَّغِيرَةُ كَجَيْشٍ صَامِتٍ لِتُكْمِلَ المُهِمَّةَ. ثُمَّ تَظْهَرُ "دِيدَانُ الزُّومْبِي" الغَرِيبَةُ أَوْ بِمَا تُعْرَفُ بِـ"الدِّيدَانِ آكِلَةِ العِظَامِ"، الَّتِي تُفْرِزُ سَائِلاً حَمْضِيّاً يُذِيبُ عِظَامَ الحُوتِ القَوِيَّةَ، وَيُطْلِقُ كُنُوزَ الدُّهُونِ وَالبُرُوتِينَاتِ المُخْتَزَنَةَ فِيهَا.
هَذِهِ الكُنُوزُ المَدْفُونَةُ فِي جَوْفِ البَحْرِ تُصْبِحُ غِذَاءً لِبَكْتِيرِيَا خَاصَّةٍ، تَتَغَذَّى مِنْهَا نَبَاتَاتُ الأَعْمَاقِ الَّتِي تَتَفَتَّحُ أَزْهَارُهَا فِي الظَّلَامِ الدَّامِسِ. هَكَذَا تَسْتَمِرُّ دَوْرَةُ الحَيَاةِ العَجِيبَةِ فِي قَلْبِ المَوْتِ لِمِئَةِ عَامٍ كَامِلَةٍ، يَنَامُ فِيهَا الحُوتُ الأَخِيرُ لِيُوَلدَ مِنْ جَسَدِهِ عَالَمٌ جَدِيدٌ. يَمُوتُ الحُوتُ لَكِنَّهُ يَمْنَحُ الحَيَاةَ لأَكْثَرَ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفاً وَأَرْبَعِمِئَةٍ وَتِسْعِينَ مَخْلُوقاً صَغِيراً، وَيُصْبِحُ بَعْدَ رَحِيلِهِ مَصْدَرَ عَطَاءٍ لَا يَنْضَبُ، فَتَبْدَأُ حَيَاةٌ جَدِيدَةٌ.
وَلِهَذَا يُقَالُ: عِنْدَمَا يَمُوتُ الحُوتُ، يُولَدُ عَالَمٌ جَدِيدٌ مِنَ الحَيَاةِ.
أَمَّا أَنْتَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ، يَا مَنْ قَالَ عَنْكَ رَبُّكَ: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ}، يَا مَنِ اصْطَدْتَ الحُوتَ وَقَتَلْتَ مِنْ نَفْسِ جِنْسِكَ، يَا مَنْ تَكَبَّرْتَ وَتَجَبَّرْتَ، مَاذَا سَيَبْقَى مِنْكَ بَعْدَ المَوْتِ؟ هَلْ لَكَ أَثَرٌ كَالحُوتِ، يُنِيرُ الأَعْمَاقَ بَعْدَ الرَّحِيلِ؟
عِشْ كَمَا تُرِيدُ، وَاصْنَعْ مَا شِئْتَ، لَكِنْ تَذَكَّرْ أَنَّ الحَيَاةَ فَانِيَةٌ، وَأَنَّنَا جَمِيعاً رَاحِلُونَ. الأَثَرُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يَبْقَى.
فَازْرَعْ فِي دُنْيَاكَ أَثَراً جَمِيلاً، وَاجْعَلْ لِرُوحِكَ حَيَاةً بَعْدَ المَمَاتِ.

تعليقات
إرسال تعليق