بقلم : حسين الشرقي
أكتبُ لأنني لا أجد وسيلة أخرى لأُبقي نفسي حيًّا، أكتبُ لأن الصمت يثقل رأسي مثل حجر، ولأن الكلام يهرب من فمي كلما أردت أن أضع نقطة فاصلة بيني وبين العالم. في هذا الركام الهائل من الأخبار والوجوه والزحام، لا يبقى للإنسان إلا نافذة صغيرة يتشبّث بها، نافذة يطل منها على ما تبقّى من روحه.
العالم من حولنا يركض بسرعة، يلهث في سباقٍ لا يعرف نهايته. مدن تُهدم وأخرى تُبنى، قلوب تُغلق وأخرى تُفتح، ونحن عالقون في المنتصف، نجرجر ذاكرتنا مثل حقيبة قديمة امتلأت بالغبار والصور المهترئة. لا أحد يسأل: من نحن حقًّا؟ إلى أين نمضي؟ وما معنى أن نعيش كل هذا العمر ونبقى غرباء حتى في بيوتنا؟
أكتب الآن لأتذكّر أنني ما زلت إنسانًا، لم أتحوّل بعد إلى رقم في نشرة إحصائية أو هامش على جدارٍ مُهمل. أكتب لأقاوم التلاشي، لأُعلن أنني رأيت، وسمعت، وحلمت، وبكيت، وضحكت، حتى لو لم يصدّقني أحد. الكتابة ليست زينة للجرائد، إنها بقايا صرخة مؤجلة، إنذار مبكر بأننا على وشك أن نفقد ما تبقى من إنسانيتنا إن لم نتمسّك بها.
كل شيء في هذا العالم مؤقت: السلطة، المال، المجد، وحتى العلاقات. وحدها الكتابة تظلّ عصيّة على النسيان، كأنها طائر يهاجر معنا من وطنٍ إلى وطن، يحملنا حيث لا يستطيع الجسد أن يصل. أكتب لأطفالي الذين لم يولدوا بعد، لأصدقائي الذين غابوا في المقابر، وللغرباء الذين قد يقرؤونني يومًا في ركنٍ من صحيفة مهملة.
أكتب لأقول إننا لسنا مجرد أدوات في يد السوق والسياسة، بل بشر نحلم ونخاف ونحتاج إلى أن نُحبّ ونُحب. الكتابة فعل مقاومة ضد الجفاف، ضد الخوف، ضد الصمت الذي يريد أن يبتلعنا.
في النهاية، لا أملك سوى هذه الكلمات، أضعها بين أيديكم، علّها تجد فيكم من يقرأها لا بعينيه فقط، بل بقلبه. الكتابة ليست خلاصًا، لكنها الطريقة الوحيدة التي نملكها كي لا نغرق تمامًا.
تعليقات
إرسال تعليق