​حبٌّ عبر الواي فاي

بقلم: ناصر بن محمد الحارثي 


​في العامِ ٢٠١٠، في بلدةٍ هادئةٍ بقلبِ عمُان، لم تكنْ سمر، ذاتُ العشرينَ عاماً، تدركُ أنَّ قصةَ حُبها لنْ تبدأَ بلقاءٍ صدفةٍ، بل بكلمةِ سرٍ وغموضٍ. كانتْ طالبةً في سنتها الثانيةِ بكليةِ الطبِّ، يملؤها الشغفُ بأنْ تصبحَ طبيبةَ أطفالٍ، وأنْ تزرعَ الأملَ في حياةِ الزهورِ الصغيرةِ، خاصةً وأنها رأتْ عن قربٍ التحدياتِ التي تواجهُ أختَها الصغيرةَ. كانَ والداها سندَها الدائمَ في تحقيقِ حلمِها الذي اختارتْهُ بنفسِها.

​وفي أحدِ أيامِ العامِ الدراسيِّ، دخلَ طالبٌ جديدٌ إلى قاعةِ المحاضراتِ نفسِها. كانَ شابًّا وسيمًا في الثالثةِ والعشرينَ، بقامةٍ قويةٍ وشعرٍ أملسَ، ذكاؤُهُ ودهاؤُهُ يلمعانِ في عينيهِ. كانَ قد عادَ لتوهِ من بلادِ الشامِ مع والديهِ، وقدَّمَ نفسَهُ للجميعِ باسمِهِ "رائد"، ليجلسَ في المقعدِ الأخيرِ بعيداً عن الأنظارِ.

​مرّتِ الأيامُ، وكانَ الجميعُ ينجذبُ لجاذبيةِ رائدٍ وذكائِهِ، لكن سمرَ، التي كانتْ شديدةَ الحياءِ، لم تجرؤْ على الاقترابِ منهُ. كانتْ تكتفي بمراقبتِهِ من بعيدٍ، وقلبُها يخفقُ خفقةَ إعجابٍ في صمتٍ.

​وفي يومٍ ما، بعدَ انتهاءِ المحاضراتِ، ترجّلتْ سمر من حافلةِ الكليةِ أمامَ منزلِها، لتلمحَ سيارةً سوداءَ اللونِ تقفُ عندَ عتبةِ منزلِها. كانتِ المرةَ الأولى التي تراها. دخلتِ المنزلَ دونَ أنْ تعيرَ الأمرَ اهتماماً، لكنْ بعدَ ساعتينِ، فتحتْ نافذةَ غرفتِها لتكتشفَ أنَّ السيارةَ لا تزالُ هناكَ. تسللتِ الحيرةُ إلى قلبِها. نزلتْ إلى الحديقةِ لترى أنَّ السيارةَ قد اختفتْ.

​وفي اليومِ التالي، عادتِ النظراتُ المتبادلةُ بينها وبينَ رائدٍ في استراحةِ الكليةِ، لكنها سرعانَ ما عادتْ إلى البيتِ. وما هي إلا لحظاتٌ حتى عادتِ السيارةُ السوداء لتتوقفَ أمامَ منزلِها. هذهِ المرةَ، تمكنتْ سمر من رؤيةِ مَنْ بداخلِها: إنّهُ رائدٌ.

​صُعقتْ سمر. "يا إلهي، ماذا يفعلُ هنا؟" تذكّرتْ نظراتِهِ، وقالتْ في نفسِها: "لقد كانتْ إشارةَ حُبٍّ، وهوَ الآنَ يؤكدُها بوجودِهِ أمامَ بيتي." غمرتْها السعادةُ، فلطالما كانَ رائد مثالاً للشابِّ الذي تحلمُ بهِ.

​مضى شهرٌ كاملٌ، ورائد يأتي كلَّ يومٍ، أحياناً في المساءِ، ويقضي ساعتينِ في سيارتِهِ قبلَ أنْ يرحلَ، لكنه لم يُرسِلْ أيَّ إشارةٍ صريحةٍ، مما جعلَ صبرَها ينفد. وفي يومِ السبتِ، قررتْ سمر أنْ تواجهَهُ.

​ما إنْ ترجّلتْ من الحافلةِ، لم تجدهُ في مكانِهِ. انتظرتْ ثلاثَ ساعاتٍ وكأنها ثلاثُ سنواتٍ عجاف، ثم جاءَ رائدٌ وتوقفَ في المكانِ المعتادِ. ارتدتْ سمرُ أجملَ ثيابِها، ونزلتْ إليهِ بثقةٍ. دقتْ على نافذةِ سيارتِهِ ليفتحَها وعيناهُ يملؤُهُما الذهولُ.

​"مرحباً يا سمر!" قالَ رائدٌ بخجلٍ.

​"مرحباً يا رائد. لماذا لم تتحدثْ معي؟" قالتْ سمر بصوتٍ هادئٍ ومباشرٍ. "أنا أراكَ هنا كلَّ يومٍ منذُ شهرٍ، تنتظرُ شيئاً ما. نظراتُكَ تقولُ الكثيرَ، لكنَّ قلبَكَ جلمودٌ لا ينطقُ؟! أخبرني بما لديكَ، وأنا أعدُكَ بقلبٍ مفتوحٍ."

​ترجّلَ رائد من سيارتِهِ ووجنتاهُ مُحمرّتانِ من الخجل، ثم تنهّدَ قليلاً وكأنهُ يجمعُ شجاعتَهُ. نظرَ في عينيها وقالَ بصوتٍ خافتٍ:

​"يا سمر... أنا آسفٌ حقًّا. ما رأيتِهِ من وقوفي هنا كلَّ يومٍ، هذا له علاقةٌ بي وبظروفي، وليسَ بشيءٍ كنتُ أتمنّاه..."

​صمتَ للحظةٍ، وبدتْ عليهِ حيرةٌ شديدةٌ وهو يبحثُ عن الكلماتِ المناسبةِ، ليكملَ حديثَهُ، وسمر تتأملُ عينيهِ وتُنصتُ لكلماتِهِ بقلبٍ تُسمع نبضاتِهِ من بعيد. يستمرُّ رائد في كلامِهِ...

​"حسناً يا رائد، إن لم تستطع الكلام، سأقولها أنا..." قالت سمر بهدوء، ثم اقتربت منه خطوة، وعيناها مثبتتان على عينيه وكأنها تبني بكلماتها قصراً من زجاج. "نعم يا رائد، مجيئك ووقوفك أمام بيتي... ما جاء بك إلا الشوق. والشوق لم يأتِ عبثاً..."

​صمتَ رائدُ للحظةٍ، وبدتْ عليهِ حيرةٌ شديدةٌ وهو يبحثُ عن الكلماتِ المناسبةِ، ليكملَ حديثَهُ...

​"أخي الكبير وجدتي ما زالا في الشامِ. والاتصالُ بهم صعبٌ جدًّا. كنتُ أحاولُ أنْ أبقى على تواصلٍ معهم، حتى أطمئنَّ عليهم، لكنَّ الإنترنت صعبُ الوصولِ إليهِ... وفي الحقيقة يا سمر، أنا آتٍ إلى هنا كلَّ يومٍ لأني أستخدمُ شبكةَ الواي فاي الخاصةَ ببيتكم. شبكتكم مفتوحةٌ... وأنا حقًّا آسفٌ."

​نزلَ الخبرُ على سمر كالصاعقةِ. تمسكتْ بهدوئِها، وعادتْ إلى بيتِها والحزنُ ممزوجٌ بالغضبِ يملأُ قلبَها. دخلتْ، وذهبتْ مباشرةً إلى جهازِ الواي فاي، ووضعتْ كلمةَ سرٍّ لا يعرفُها أحدٌ إلا اللهُ.

انتهت.

تعليقات