الهدية المشؤومة.. الجزء الثاني

 بقلم:ناصر بن محمد الحارثي 

هنا أخذَ العم حمد كوباً من الماءِ، وكأنهُ يرويَ ظمأَ القصةِ، ونظرَ إلى أبنائه المستمتعينَ بكلِّ حرفٍ. أخذتْ أميرةُ العبوةَ، وكانَ مكتوباً عليها "سنتوب" وصورةُ برتقال. هنا قاطعَ أحدُ الأطفالِ العمَّ حمد قائلاً: "وكيف لا يعرفونَ السنتوب؟" قال العم حمد: "لأنهم لم يعرفوا من دكاكينِ الدنيا غيرَ قواربِ الموتِ، وكانوا يحضرونَ كلَّ احتياجاتِهم من القرى المجاورة."

​أخذتْ أميرةُ علبةَ السنتوبِ وهي تتمعنُ النظرَ إليها، تقولُ: "ماذا أفعلُ بها يا والدي؟" قال: "لستُ أدري، ربما نشربُها، فبها هذه الماصةُ، أو الـ"بيب" كما نسميهِ نحنُ." وبينما كانَ والدا أميرة يتباحثانِ في أمرِ العبوةِ، عادتِ العاصفةُ مرةً أخرى، وكأنها غضبٌ من البحرِ. خرجَ والدُ أميرة ليتفقدَ القاربَ، ويزيدَ من ربطه، خشيةَ أن تجرفَهُ أمواجُ الغضبِ. زادَ صوتُ البرقِ والرعدِ، وأخذَ صوتُ العاصفةِ يُرعبُ الجميعَ.

​هنا غيّر العم حمد جلستَهُ ونبرتَهُ في الحديثِ، فخافَ الصغارُ وهم يترقبون ما الذي حدث. وبعد ساعةٍ من الزمن، عادَ والدُ أميرة إلى المنزلِ، لكن هذه المرةَ كانتْ معه امرأةٌ عجوزٌ طاعنةٌ في السن، تلبسُ ثوباً أسودَ كليلٍ حالكٍ، وقد بللتها مياهُ الأمطار. شعرُها أبيضُ ورماديٌّ مجعّدٌ، وعيناها صغيرتانِ، لكنَّ نيرانَ الكحلِ فيهما كانتْ تزيدُهما حدةً. كانتْ جبهتُها حمراءَ من الحناءِ، ومعها عصا كبيرةٌ من شجرةٍ قديمة.

​إنها العجوزُ التي تسكنُ في أطرافِ القريةِ، وحيدةٌ كقبرٍ في الصحراءِ. عرفها الجميعُ، وكانت الحكاياتُ تدورُ حولها، أنها ساحرةٌ شريرةٌ تخطفُ الأطفالَ وتحولُهم إلى أغنام. صُعقتْ أمُّ أميرةَ عندَ رؤيةِ العجوزِ، وقالتْ لزوجِها: "من أينَ جئتَ بها؟" قالَ: "كانتْ تمشي وحدها في القريةِ، وبيتها قد غرقَ، ولم يفتحْ لها أحدٌ باباً، ولم يهنْ عليَّ قلبيَ أن أتركَها وحيدةً في هذه العاصفة." نادتْ زوجَها من المطبخِ وقالتْ: "ألا تعلمُ أنها ساحرة؟" قال: "لا أعتقدُ ذلك، لم نرَ منها ما يريبُ."

​جلستِ العجوزُ في غرفةِ المعيشةِ، ونظراتُها الحادةُ لم تفارقْ أميرةَ الصغيرةَ. دبّ الرعبُ في قلبِ الأم، وبعدَ لحظاتٍ، أخذتِ العجوزُ تضحكُ، ثم تقهقهُ وهي تنظرُ إلى أميرةَ التي تحتضنُ علبةَ السنتوب. فجأةً، مدتْ العجوزُ يدَها لتمسكَ بأميرة، فارتعبتِ الأمُ واحتضنتْ ابنتَها وقالتْ: "ماذا تريدينَ من ابنتي؟" قالتِ العجوزُ: "أريدُها!" صرختِ الأمُ المرعوبةُ وهرعتْ إلى غرفتها وأغلقتِ البابَ على نفسها. ووالدُ أميرة ينظرُ بذهولٍ. "مالكِ يا خالة؟" قامتِ العجوزُ وأخذتِ العصا تطرقُ على البابِ بقوةٍ: "افتحي الباب! افتحي البابپ!" بغضب.

​هنا أيقنَ والدُ أميرة أنه ارتكبَ خطأً فادحاً، هرعَ إلى خارجِ البيتِ يستنجدُ بالجيران، وما هي إلا لحظاتٌ حتى اجتمعَ أهلُ القريةِ وشيخُهم. توقفَ المطرُ، وامتلأ البيتُ بالناس. كانتْ مأساةً أصابتْ العائلةَ الطيبة. في هذه الأثناء، كانتْ أميرةُ الصغيرةُ ترتعشُ من الخوفِ، وأمُّها تصرخُ وتستنجدُ بالناس.

​جاءَ شيخُ القريةِ وكلَّمَ العجوزَ: "مالكِ ومالَ الصغيرةِ؟" قالت: "أريدُ الصغيرة!" يقولُ العم حمد: "كنتُ في ذلكَ الموقفِ أختبئُ خلفَ والدي الشيخ، وكنتُ أرتعدُ من الخوف." أكملَ العم حمد القصةَ وقال: "ما إن قالتِ العجوزُ: "أريدُ الصغيرة"، حتى سقطَ والدُ أميرةَ مغمىً عليهِ من هولِ الموقف، وأخذهُ الجيرانُ يساعدونَهُ. وتعالتْ صرخاتُ نساءِ القريةِ، لكنَّ العجوزَ لم تتوقفْ عن ترديدِ: "أريدُ الصغيرة! أريدُ الصغيرة!"

​للقصة بقية...

تعليقات