بقلم: ناصر بن محمد الحارثي
مضى شهران على حالي، وأنا أراقب الناس من حولي، يغدون ويروحون في صخب الحياة، ولا يعلمون ما يدور ببالي. في غرفة مكتبي الصغير، كنتُ أقضي النهار أراقبهم من نافذتي، ولسان حالي يهمس: كيف يعيشون؟ وكأن المصيبة لم يعرفها أحد من البشر سواي. عشتُ أياماً كئيبة، أحاول جاهداً أن أخفيها خلف تعابير وجهي المتماسكة، لكن روحي كانت تئن بصمت.
وإذا جاء الليل، نظرتُ إلى السماء، أبحث عن النجوم، لكن عيناي لم تريا القمر. في ليلة ظلماء موحشة، والصمت الثقيل يملأ أركان المكان، انتظرتُ القمر لأُلقي عليه أسئلتي التي تثقل كاهلي. متى يأتي الفرج؟ متى تشرق شمس الأمل لتعود الحياة إلى سابق عهدها؟ لم أجد القمر، لقد غاب عني وتركني، تماماً كما تركتني الفتاة التي أحببتها، تاركاً لي فراغاً يصدحُ بالألم.
وبعد عدة أيام من الانتظار المرير، عاد القمر متلألئاً في كبد السماء، مصاحباً معه بصيصاً من الأمل. سألته بلهفة: "أين كنتَ يا قمر؟" أجابني بصوتٍ خافتٍ كهمس النسيم: "كنتُ في بلادٍ بعيدة، أزرع الأمل في قلوبٍ أنهكها الشوق." قلتُ له متسائلاً: "وهل هناك من هم غيري يرجون الأمل؟" أجابني بابتسامة حكيمة: "نعم، إنهم كثيرون يا صديقي، لستَ وحيداً في هذه الدنيا من تعشق وتحب."
قصصتُ عليه قصص آلامي، وقلتُ له هذا حالي: الفتاة فارقتني، والحب تركني، والحياة ضيعتني. أجاب القمر بنبرة واثقة: "الحل بين يديكَ وأمام ناظريكَ، لكن لم يحن الوقت بعد." هنا، اختفى القمر تدريجياً، ونادى منادِ الفجر: "الله أكبر، الله أكبر." وبدأ نور الفجر يسطع، مبدداً ظلام الليل، ومعه بعضٌ من ظلام روحي.
كم مضى الوقت سريعاً! صليتُ الفجر، ونظرتُ إلى ساعتي. إنه الثامن عشر من أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام. والقمر لم يعطني جواباً شافياً، لكنه زرع في داخلي بذرة أمل. نظرتُ إلى قلمي، واستلهمني الحنين الجارف، فكتبتُ "عـــــــودي".
عـــــــــــودي
لم أعُدْ دارياً أينَ أذهبُ
ولم أعُدْ دارياً كيفَ أُعبِّرُ عنْ أفكاري
أبعدَ حُبٍّ وعشقٍ جَلَا؟
بذلُ العيشِ، ومَهانةُ الأقدارِ!
ألا يزالُ العمرُ في أولهِ
والكناريُّ يُغرِّدُ فوقَ الأشجارِ؟
فلِمَ البعدُ والهجرانُ عن محبوبٍ
وقلبي لا يزالُ عامراً بالحبِّ والأشعارِ؟
فمنذُ أنْ فارقتِني لمْ يهنأْ لي
عيشٌ لا بليلٍ ولا بنهارِ
فلقدْ ذقتُ طعمَ الأسى والوحدةِ
وبهما شهدتُ مصرعي ودماري
فقتلتْني الوحدةُ والخوفُ منْ المجهول
وتوالتْ عليَّ الأهوالُ باستمرارِ
فكمْ عاشَ الحبُّ في قلبي
سجيناً خلفَ القضبانِ، كالمجرمينَ والأشرارِ
فبعدَ رحيلكِ عني، بكيتُ وبكيتُ
حتى سالتِ الدموعُ على خدَّيَّ كالأمطارِ
فواللهِ إنَّ الحياةَ منْ دونِكِ مَشَقَّةٌ
أعيشُ فيها ناراً على نارِ
عودي إليَّ ولا تترددي
بدخولِ بيتي وداري
عودي إليَّ فإنني غيرُ
قادرٍ على اتخاذِ قراري
فلا رأيَ لي منْ دونِكِ، فلمنْ
يا تُرى أُقدِّمُ أسفي واعتذاري؟
فأنتِ سلوتي في وحشتي
وأُنسي ورفيقةُ أسفاري
وصوتُكِ الجميلُ لحنٌ نَدِيٌّ
يتناغمُ معَ صدى أوتاري
وبصفاءِ عينيكِ وميضُ نورٍ
أشرقتْ بضيائهما الأنوارُ
وإنَّ في جمالكِ السحرَ، عجَزَتْ
عنْ وصفهِ القصائدُ والأشعارُ
إنَّ حبكِ يا حبيبتي كنبعِ ماءٍ
أحيا بهِ، مثلَ الندى تحيا بهِ الأزهارُ
إني أحبكِ حباً بعدَدِ ما
تُنزلهُ السماءُ منْ أمطارِ
وأعشقُكِ عشقاً بعددِ ما
كتبهُ العشاقُ منْ أشعارِ
فلأجلكِ تركتُ بيتي وأهلي
على أملِ أنْ تعودي بعدَ طولِ انتظاري
فاعتزلتُ الناسَ جميعاً لأنهمْ
لمْ يفهموا حبِّي ولمْ يفهموا أطواري
فعرضوا عليَّ المالَ والمُلكَ
ولكنني زدتُ إصراراً على إصرارِ
كلُّ الناسِ لا يريدونكِ
أنْ تكتشفي الحبَّ في أشعاري
لكنني حاربتُهم وقاتلتُهم
وعصفتُ بهمْ كالإعصارِ
وأسقطتُ بالكلماتِ ألفَ قصيدةٍ
وحفرتُ بالكلماتِ ألفَ جدارِ
فلوْلاكِ يا حبيبتي لبقيتُ طفلاً
لا علمَ لهُ بما في الدنيا منْ أسرارِ
فواللهِ إنَّ حبِّي وعشقي لكِ
لا يعلمهُ إلا اللهُ الواحدُ القهَّارُ.

تعليقات
إرسال تعليق