مذكرات رجل ..تجربة حياة..غرفة الطوارئ رقم ٧

بقلم : فايل المطاعني


في لحظاتٍ لا يخطط لها الزمن، ينكشف الإنسان على حقيقته… ليس كما يبدو في المرآة، بل كما تنحته الأيام في قلبه.

هناك، حيث تختلط القهوة بالدموع، والظل بالحكاية، والغرفة البيضاء بالأمل المعلّق على أنفاس خافتة، تنسج الحياة دروسها بلا مقدمات.


هذه ليست حكايات عابرة، بل وشمٌ على جدار الذاكرة… وشمٌ كتبه رجلٌ تذوّق مرارة التجربة، وكتبها لا ليحزن، بل ليتذكّر أنه ما زال حيًّا رغم كل شيء.

غرفة الطوارئ رقم ٧


في ليلة حالكة السواد، لم يكن في المدينة سوى أضواء المشفى تومض كأنها تبكي، وهدير سيارات الإسعاف يمزق سكون الخوف.

كنتُ هناك، أرتجف كمن نُزع منه الحصن الأخير. في غرفة الطوارئ رقم ٧، كانت والدتي تتنفس بصعوبة، بينما الطبيب الشاب يهمس: "أدعو الله، فالعلم يقف الآن عاجزًا".

في تلك اللحظة، فهمت لأول مرة معنى أن تكون إنسانًا... هشًّا، متعلقًا بخيط من أمل. وخرجتُ من الغرفة رجلًا آخر... رجلًا يقدّر أنفاس الأحبة قبل أن تصمت.

 ليس كل ألم يُرى... بعضه يُمزق في صمت غرف الطوارئ.

ظلّك على الجدار

في عزلة الحجر الطويل، بدأت أتكلم مع ظلي... لا، لم أجنّ، لكني اكتشفت أن ظلي الوحيد لم يغادرني يومًا، حتى حين رحل الجميع.

كان يراقبني، يطول حين أطيل الجلوس، ينكمش حين أنكمش، يصمت حين أبكي. وذات مساء، كتبت له رسالة:

 "أيها الظلّ، كنتَ أكثر وفاءً من كثير من البشر."

في الغد، سقطت ورقتي من النافذة، وحين لحقت بها، رأيت جاري الذي لم أكلّمه منذ سنوات... يلتقطها ويقرأ. ثم بكى.

 أحيانًا، نظنّ أننا نكتب لأنفسنا، لكن كلماتنا تصادف قلوبًا تنتظرها بصمت.

القهوة الأخيرة

كان مقهانا الصغير في الزاوية، لا يقدّم أكثر من فنجان قهوة وسيرة الحياة.

كل صباح، نأتي أنا والعم صالح. نحجز الزاوية ونقتسم صمتنا، يتحدث مرة عن شبابه، وأحدثه عن أولادي. كنا نعرف كل شيء عن بعضنا... دون أن نقول كل شيء.

وفي اليوم الذي عاد فيه المقهى بعد الإغلاق الطويل، جلستُ وحدي... أنتظر.لكن الكرسي المقابل ظلّ فارغًا.

سألت النادل: "أين العم صالح؟"

قال: "لم يعد. مات في الليلة التي قُفِل فيها المقهى."

بكيت وأنا أحتسي القهوة... ولم تكن القهوة الأخيرة.

بعض الناس لا يغادرون الطاولة، بل يبقون فنجانًا ناقصًا في ذاكرة الروح.ما بعد التجربة... الحياة

بعد كل غرفة طوارئ، هناك حياة تنتظر.

بعد كل ظلّ وحده يرافقنا، هناك روح تعود لتضيء من جديد.

بعد كل فنجان قهوة نرتشفه مع الغياب، هناك حديث لم يكتمل… لكنه لا يموت.

التجارب لا تمرّ عبثًا، فهي تُخرج من داخلنا رجلاً آخر… رجلًا لا يشبه ذلك الذي دخل الحكاية، لكنه بالتأكيد أقوى، أعمق، وأكثر صدقًا مع الحياة.


في النهاية، ليست "مذكرات رجل" سوى مرايا صغيرة نكسرها كل يوم، لنرى الحقيقة في انعكاسها المتشظّي... ونبتسم.

تعليقات

إرسال تعليق