بقلم . زهرة الراسبي
بتثاقل ناعس، بدأ يجمع القطع المتكسرة والتالفة في صندوق كبير، وبعيون غارقة بالعبوس، تأمل أرفف الألعاب المبعثرة بعشوائية، إيذانًا بتنظيمها.
أقفل باب المحل، وبدأ بترتيب لعب الأطفال المصنفة حسب الحجم، والعمر، والنوع: فهناك الحيوانات المتباينة، والآلات البلاستيكية، والدببة الناعمة، والعديد من مجسمات السيارات بأحجامها المتفاوتة وغيرها .
ابتسم وهو ينفض عنها الغبار، وآثار الأيدي الصغيرة ؛ إذ تذكر وجوه الأطفال وهم يتجولون في المحل بفرح ممزوج باندهاش بريء ،كانوا يتلمسون الألعاب، وغمرة الفرح تتراقص في أعينهم، وشهقات الإعجاب تترد كالصدى المغرد في أجنحة المحل المختلفة.
كان يحب الأطفال ويحب إسعادهم، ويتعلم دائماً من بساطتهم،وينظر إليهم كقدوة ومعلمين : برضاهم التام، وفرحهم الدائم، ونشاطهم المرح، وصراحتهم الصادقة. تحدث مع نفسه بابتسامة رضا أضاءت محياه :استمتع بحياتك، ولا تقيد نفسك بالجمود والرسميات، انطلق وارمِ خلفك القيود المعهودة المتوارثة، وأقنعة الزيف الكاذبة، ابتسم لو كان قلبك مبتهجا، وابكِ إذا حزنت، استنزف دموعك، ولا تستنزف شرايين قلبك، ولا أوتار أعصابك، أو ساعات عمرك الغالي.
فبرغم من أن سبب وجودنا العبادة، لنَسْعد بقُرْب الله، إلا أن البعض يمضي في طريق الحياة، مرتدياً العديد من الأوشحة المثقلة بالهموم، والسماعات الحساسة لكلام الناس، فيظلُ حزيناً تجثو فوق رأسه غيمة الكآبة،وعلى ذكر كلمة "الوجود"، وشعورنا به: أنت أيها الحصان الوردي، المتباهي بملمسك المخملي، والمركون في رف الحيوانات اللطيفة، متى تشعر بوجودك؟ تنفس الحصان الوردي بعمق، وأغمض عينيه، وبدأ بسرد مسببات شعوره بالوجود، أو الأشياء التي من خلالها يشعر بأنه موجود :إذا أطلقتُ العنان، وأصبحتُ جُزءا من الريح، في خفتها، وسرعتها، ومرونتها
عند المنحنيات، وعندما ينبض قلبي بشدة، إلى الحد الذي أشعر فيه، أنه بإمكان الآخرين سماعه من سرعة الجري بلا توقف، عندها أشعر بأني موجود.
كلام منطقي بالنسبة لحصان. رد البائع على الحصان بملامح الاقتناع، واستكمل حديثه معه: وإن كنت مجرد لعبة إلا أن أحلام الخيول تُوحَدك مع الجياد المخلوقة فعلاً، وأنت أيها الطبل الصغير، بين يدي قرد لطيف، متى تشعر بوجودك ؟ تخلص الطبل من بين يدي لعبة القرد، وبدأ يقفز بخفة من خلال الأرفف إلى الأعلى، حتى وصل إلى أعلى رف موجود، وبدأ يصرخ بصوته الجهوري: عندما يصل صوتي إلى أبعد مدى، عندما يدق صوتي طبول الآذان وبشدة، عندما لا يطغى صوت إلا صخبي ،عندما تبدأ العجائز بسد آذانها بانزعاج، عندما يبكي الرضيع لقوة ما يسمع ، عندما تهتز الجدران، وترجف الأواني، وتهرب الطيور من دويي ، عندها أشعر بوجودي وبجدارة.
رفع البائع حاجبيه، وأومأ برأسه كأنه يقول أعرف ذلك، واستكمل متحدثا: لكن فيما تطبل، وتصوت؟ وأنت خاوي المحتوى؟
بكل ثقة بعد أن نَفَخَ الطبل صدره بالهواء : لا أهمية عندي إن كنت أمتلك محتوى أم لا ، فالمهم هو الصوت العالي، وتعال انظر إلى حجم المتجمهرين حولي.
ضحك البائع من الأعماق، وهو يتصور المتجمهرين حوله بكثرة كما يقول، والتفت إلى لوحة بلاستيكية، مُعلَّق عليها عدة بلاستيكية أيضا، لمعدات النجار، خاصة بالأطفال، وأومأ برأسه مرحباً بلطف: وأنتم أيها العمال،متى تشعرون بجودكم؟
نزع المنشار البلاستيكي نفسه من لوحة العرض، وواجه البائع السائل وجهاً لوجه، وبصوت ملؤه التحدي النشاز، تحدث بلا انقطاع : كلما جمعت أكثر شعرت بوجودي، كلما سيطرت على كل الأشياء، والموجودات والممتلكات، بأي طريقة، وأي حيثية، فأنا حتماً موجود، لا يهم إن كنتَ تمتلك الكثيَر أو القليل، المهم أني أنتزعه منك بلا هوادة أو تباطؤ، قاطعه البائع معقباً على كلامه، ومكملاً عليه : أي إنك تطلع تأكل، وتنزل تأكل،كما يقول المثل، صحيح؟
.-ليس الأكل فقط، بل النهب والاختلاس، والرشوة والابتزاز، ولكل زمان ومكان وإنسان ظرفه، وبالتالي تأتي موهبتي في الأخذ......والأخذ.
لم يسأله أحد لكنه مشى متجهاً إلى البائع السائل بخفة، وبدون أن يصدر أي صوت، بسبب مادته المصنوعة من الفرو الناعم والمحشوة بالقطن الخفيف، ، نظر بحسرة إلى المنشار، وتنهد مخرجاً مشاعر الشفقة والعتاب في الحين ذاته ، وبرقة حانية تحدث دبدوب الأطفال: أنا الونيس إذا غاب الصديق.....أنا الدفء إذا هاجم البرد.....أنا الحضن إذا رحلت الأم.....أنا المتكئ إذا بان السند.....ومرسى الأسرار إن غاضت الأسرار.....ومخبأ للعيون إذا فاضت الدموع
لو فعلت ذلك كله ، فإذا أنا موجود حقاً.
فابتسم البائع برضا للعبة الدب الناعمة، فجذبها بفروها الناعم، بعدما رمى جسده المنهك على الكرسي، وأخذ يحدثه: كم طفلاً أسكت؟ وكم مهموما حضنت؟ وكم أماً ساعدت؟ وكم سرا ضمرت؟
أتى صوت من بعيد :هل أنت موجود؟...هل أنت موجود؟صوت عالٍ، تمتزج فيه بحة معهودة، إنه لصاحب المحل العجوز، يريد أن يقفله، ويتأكد من مكان وجود البائع العامل لديه،فانتفض البائع من غفوته واقفاً: نعم أنا موجود.....بالتأكيد أني موجود، قالها بصوت عالٍ كي تصل إلى العجوز،لكنه إنزل من درجة صوته هامساً وكأنه يكلم نفسه: مادمت أعمل بحب... مادمت أُرتب بضمير..... مادمت أُسعد الأطفال... فإني موجود......ولكن ماذا يفعل هذا الدب في حضني؟

تعليقات
إرسال تعليق