بقلم: فايل المطاعني
الدكتورة بدرية علي
تفضل، ادخل..قالتها بهدوء عندما سمعت طرقًا على باب مكتبها. لم تمضِ ثوانٍ حتى دخل رجل أنيق، يضع بين شفتيه سيجارة فاخرة بطرف مدبب، يتصاعد منها دخان كثيف. جلس أمامها وقال معتذرًا: آسف على التأخير، دكتورة... أطلت المكوث خارجًا وأنا أبحث عن مكتبك. السيجارة؟ فقط لأهدئ أعصابي بعد المكالمة المفاجئة من المستشفى.
قال ذلك وهو ينفث الدخان في الهواء، ثم أطلق ضحكة قصيرة تحمل توترًا خفيًا.
كانت الدكتورة بدرية منشغلة بفتح درج مكتبها، تبحث بين الملفات. وما إن وجدت الملف المطلوب حتى رفعت عينيها إليه وقالت: أهلًا وسهلًا... ولكن، لم أتشرف بمعرفتك.
ابتسم الرجل ابتسامة باهتة وقال وهو يمد يده:تقصير مني، سامحيني. لم أقدم نفسي... أنا فؤاد سالم، رجل أعمال.
لكنها بقيت تنظر إليه بصمت، تنتظر أن يواصل.
قال بنبرة حاول أن يجعلها ثابتة: أنا... زوج نادية.
تغيرت ملامح الدكتورة بدرية فجأة، وكأن مفاجأة غير متوقعة وقعت على مسامعها. حاولت كتمان انفعالها، وقالت بنبرة مشوبة بالعتاب: زوج نادية؟! ألا يجدر بك أن تكون إلى جوارها الآن؟ لا أنت ولا أهلها زرتموها منذ أن دخلت المستشفى! ستة أشهر وهي هنا، لم نرَ أحدًا منكم.
صمت فؤاد للحظات، ثم شبك يديه ووضعهما على الطاولة، وكأنه يحتمي بهما من المواجهة. قال بهدوء:دكتورة، تعلمين أن رجال الأعمال دائمًا في شغل. لكنني الآن هنا... لأراها. هل تحسنت حالتها؟
ثم تردد قليلًا، وقال بصوت متلعثم: تعرفين... صعب على المجتمع أن يعرف أن زوجتي... في مستشفى للأمراض النفسية.
لم يستطع أن يُكمل الجملة.
تنهدت الدكتورة بدرية، واستعادت بعضًا من هدوئها المهني، وقالت:أستاذ فؤاد، زوجتك تحت الملاحظة منذ ستة أشهر، ولم تظهر عليها أعراض جنون. إنها مدركة لمن حولها، تتعرف عليّ وعلى الممرضة المسؤولة عنها. صحيح أنها تمر باضطراب نفسي، لكن هذا لا يعني الجنون. بل على العكس... أرى أن حالتها قد تتحسن إن عادت إلى البيت ورأت أبناءها.
استمع فؤاد إليها وكأنه تلميذ في حضرة أستاذة صارمة. لم يقاطعها، بل ظل يحدق فيها بعينين غائمتين.
قال بعد أن أنهت كلامها: أشكرك، دكتورة، على كل ما قدمتموه لها... ولكن، كيف تقولين إن حالتها مستقرة وهي تدّعي أنني لست زوجها؟ هذا الأمر يسبب لي حرجًا شديدًا أمام الناس!
أجابته الدكتورة بنبرة حازمة ممزوجة بالتفهم:أستاذ فؤاد، لم أقل إنها لا تعاني من أعراض نفسية. كلنا نعاني بدرجة ما... ولكن ما تعانيه يمكن التعامل معه، والسيطرة عليه. هي فقط... تقول إنها ليست نادية.
سكتت لحظة، ثم أردفت: بل تدعي أنها أختها. ونحن لا نصدق ذلك بالطبع، لكن... لمَ تصرّ على هذه الكذبة؟
قاطَعها فؤاد، وقد تغير صوته فجأة: ربما روح أختها المتوفاة... تجسدت فيها؟! لا أجد تفسيرًا آخر، غير أنها تهذي!
يتبع...
الفصل الخامس
ابتسمت الدكتورة بدرية ابتسامة هادئة، حاولت أن تخفف من وقع التوتر على وجه فؤاد، وقالت: أستاذ فؤاد، ما يحدث في عقل نادية ليس سهلاً على الإطلاق. الذاكرة أحيانًا تلعب لعبتها، وأحيانًا تختار أن تخفي أو تزيّف الحقائق التي نريدها أن تظهر. هذا ليس غريبًا في مرضها.
رفع فؤاد رأسه، نظر إلى الدكتورة بعينين فيهما مزيج من الأمل والشك: هل هناك علاج يمكن أن يعيدها إلى ما كانت عليه؟ هل يمكن أن تستعيد ذاكرتها؟ أو على الأقل، أن تعود لتتذكرني؟ لأولادي؟
أومأت بدرية برأسها، وطلبت منه الجلوس بارتياح أكثر: العلاج ليس سحريًا، لكنه موجود. نحتاج إلى صبر، ووجودك معها سيعطيها دفعة كبيرة. الدعم الأسري مهم جدًا... نادية تحتاج إلى من يذكرها بحياتها السابقة بلطف، لا بصرامة.
ثم وقفت من مكانها، وأخذت ملفها بيدها، وهمست: هناك شيء آخر... ربما قد يساعدنا. شيء لم تخبرك به المستشفى بعد.
ارتفع حاجبا فؤاد، وقال بلهفة: ماذا تعنين؟
تنهدت الدكتورة بدرية وأكملت: هناك جلسات علاج نفسي متخصصة، وتخطيط لعلاج متقدم، لكنه يحتاج موافقة الأسرة. ووجودك مع نادية سيؤثر بشكل إيجابي.
ارتسمت على وجه فؤاد ملامح الحيرة، لكنه قال بحزم: أنا مستعد... أريد أن أفعل كل شيء من أجلها. نظرت له الدكتورة بدرية بتمعن، ثم قالت:حسنًا، سأبدأ بترتيب جلسات العلاج. لكن يجب أن تكون مستعدًا لأمر قد يكون صعبًا...
نظر فؤاد إليها متسائلًا.
أضافت بدرية بصوت خافت: نادية ربما لا تعيش فقط في عالمها النفسي، لكنها تحاول أن تخفي شيئًا... شيئًا أكثر عمقًا مما نعتقد.
توقف الزمن للحظة في المكتب، وبدت الكلمة كأنها تحفر في قلب فؤاد.
همس قائلاً: ماذا تقصدين؟
ابتسمت بدرية بابتسامة غامضة: عليك أن تعرف أكثر من مجرد ما تراه العين، وأعتقد أننا سنكتشف الحقيقة معًا.
خرج فؤاد من المكتب، وفي قلبه قلق وحيرة، لكنه حمل شعلة أمل لم يعرفها من قبل.
في طريقه إلى الخارج، لم يستطع أن يمنع نفسه من النظر إلى السماء، متسائلاً: هل يمكن للحقيقة أن تعود يومًا إلى نادية؟ وهل ستقبل بأن يكون هو جزءًا من تلك الحقيقة؟
يتبع...
تعليقات
إرسال تعليق