أمي: حكايات من قنديل الإيمان

بقلم. ناصر بن محمد الحارثي


منذ نعومة أظافري، وما كدتُ أفارقُ ظلها الوارف، الذي كان لي حصنَ أمانٍ من رياح الدنيا، ونبعَ حنانٍ لا ينضب مع الأيام. كانت أنيستي حين تمدّ الوحشةُ ظلالَها، وملاذي من صخب الحياة. لم أكن الأصغر بين إخوتي، لكنني كنتُ قلبَها المدللَ ومحبوبَ الجميعِ. مضت السنونُ والأعوامُ كأنها نسمةٌ عابرةٌ، ونظراتي لا تبرحُ مرآةَ وجهها الوضّاء. واليوم، وأنا على مشارف الخمسين، يعودُ بي شريطُ الذكرى إلى عام ١٩٨٨، كنتُ حينها غضّاً في العاشرة من عمري. عند ردهة المنزل، كانت تروح وتجيء، كأنها فراشةٌ تنثرُ البركةَ بين أركان البيت وغرفه. سألتها بفضولِ طفلٍ: "ماذا تفعلين يا أماه؟". فجاءني صوتُها، همساً يملؤه الإيمانُ وسكينةُ الروحِ: "أحفظُ سورةَ الكهفِ، فهي كما قالَ المصطفى المختارُ، آياتُها حصنٌ منيعٌ من فتنةِ المسيحِ الدجالِ". يومها لم يكن وعيي يُدركُ كنهَ سورةِ الكهفِ ولا المسيحِ الدجالِ، لكني علمتُ حينها أنها كانت تغرسُ في روحي بذورَ الفضيلةِ وفضائلَ السورةِ العظيمةِ.

​وها قد أقبلَ شهرُ رمضانَ، طائراً محملاً بالنفحاتِ والبركاتِ، فإذا بها تأتي بقطعةِ قماشٍ لتُسدلَها على التلفازِ من فجرِ رمضانَ حتى مغيبِ الشمسِ، كي لا يُسرقَ الوقتُ من ذكرِ اللهِ والعبادةِ. وكان التلفازُ حينها أنِيسَ الوحدةِ، فلا هواتفَ ولا إنترنتَ تملأُ الفراغَ. كانت الصلاةُ قِبلةَ روحِها وأهمَّ ما عندها، حتى أنها أرسلتني إلى كنفِ ابنِ عمتي، الشيخِ خلفانَ بنِ محمدٍ العيسريِّ رحمه اللهُ وأسكنه فسيحَ الجنانِ، لأرتويَ من معينِ علمهِ وأتعلمَ الصلاةَ والقرآنَ. وكلما قصرتُ في صلاتي بسببِ شقاوتي، كان الخيزرانُ رفيقَ الدربِ، يُقوّمُ الخطى لِتَستقيمَ الروحُ ويثبتَ القلبُ.

​كانت روحاً معلّقةً بالرحمنِ، بصلاتها وذكرها وعملِ الخيرِ ووصلِ الأرحامِ. هجرتْ تجمعاتِ الأعراسِ لما فيها من رقصٍ وغناءٍ يُلهي عن ذِكرِ اللهِ، وتركتْ مجالسَ الغيبةِ والنميمةِ، فكانَ لسانُها نهرَ ذكرٍ يلهثُ بالحمدِ والتسبيحِ في كلِّ وقتٍ وحينٍ. كثرَ القيلُ والقالُ عنها من حولها: "لماذا هذا التشددُ في الدينِ؟" فكتمتْ حزنَها في سويداءِ قلبها، ولم تلتفتْ لهم، وكانت تردُّ عليهم: "سلاماً سلاماً"، كأنها سحابةٌ تمرُّ ولا تُلقي بالاً لترابِ الدنيا.

​وها أنا اليوم، مراهقٌ في عزِّ الفتوةِ والشبابِ، وهي تعلمُ ما لهذهِ الفترةِ من شقاوةٍ وطيشٍ، فكانت تنصحني كوصيةِ لقمانَ لابنهِ وهو يعظُه: "يا بني، مهما فعلتَ، لا تتركْ عنكَ الصلاةَ، فهي مفتاحُ حسابِكِ الأولِ عند ربّكَ". فلم أتركْها ليومنا هذا، وحرصتُ عليها حيثما ينادى بها صوتُ الحقِّ. لن أنسى فضلَها وحنينَها الذي يغمرُ روحي، وحرصَها عليَّ وعلى إخوتي لنعتصمَ بحبلِ اللهِ جميعاً ولا نفترقَ.

​وما أن حلَّ عامُ ٢٠٠٠، حتى يناديها القدرُ، ويأتي أمرُ ربها ليختارها إلى جوارهِ، بعد أن صارعتْ المرضَ بصبرٍ وإيمانٍ. كانت لا تزالُ في ريعانِ شبابها، لكنَّ أمرَ اللهِ فوقَ كلِّ شيءٍ، وقضاؤه نافذٌ لا يُردُّ. وما هي إلا شهورٌ قليلةٌ، لتُزفَّ علينا ابنةُ عمتنا خبراً يُثلجُ قلوبَنا ويُروّي ظمأَ الشوقِ: أنها قد رأت أمي في الجنةِ بثوبٍ أخضرَ يزهو جمالاً. وما هي إلا أسابيعُ، ويخبرني عمي أنه قد رآها في المنامِ تنعمُ في الجنةِ. اللهم لكَ الحمدُ، فقد أيقنتُ أن روحَها الطاهرةَ قد بلغتْ مستقرَّها.

​اليوم، بعدَ خمسٍ وعشرينَ عاماً، كلما زرتُ صديقاتها ووصلتُ أرحامَها وكلَّ من عاشَ معها، كان الحديثُ عنها وعن مناقبها التي تضيءُ الدروبَ وحسنِ أخلاقها هو جليسَنا الأنيسَ. ويلجمني الفرحُ، وتملؤني السعادةُ وأنا أستمعُ إلى قصصهم ومواقفهم معها، التي تُعيدُ رسمَ صورتها في قلبي.

​لولاكِ يا أمي ما كنتُ أنا اليومَ، لولاكِ يا أمي ما عرفتُ طريقَ الهدايةِ والصلاحِ بعدَ اللهِ تعالى. رحمكِ اللهُ يا أمي وأسكنكِ فسيحَ الجنانِ في أعلى عليين.

تعليقات