بقلم: ناصر بن محمد الحارثي
كانت تلك اللحظات الأولى من الحب قد خطتها بقلمي وأنا في مكتبي الصغير، وسط صمت مناوبة الليل العميق. استلهمت من بريق النجوم البعيدة وسألتُ القمر الذي يلوح في الأفق: كيف يكون الحب حقاً؟ كيف يعيش العاشقون تلك اللحظات الغارقة في السعادة والهيام؟ نعم، كانت هذه أول مرة أتعرف فيها على الحب، ذاك العشق الغامر الذي تملؤه البراءة وصدق المشاعر، بعيداً عن أي حسابات أو تعقيدات.
مضت الأيام مسرعة بعد رحلة العمرة المباركة، التي كانت ذكرياتها الجميلة لا تزال حية في مخيلتي كأجمل حلم. وها قد انقضت عدة أسابيع، وأنا غارق في شوق وحنين لمعرفة أخبارها، لعلني أسمع رداً يروي ظمئي. كيف كان انطباعها عني؟ ماذا قالت عن مشاركاتي ومحاولاتي التي ظننتها بريئة وجريئة في تلك الحافلة المليئة بالأمل؟ الشغف كان يملأني، والحيرة أتعبتني. كيف يمكنني الوصال إليها؟ هنا، قررت أن أتواصل مع أختي الكبرى، التي كانت همزة الوصل، وسفيرة قلبي المعتمدة عندها، ومراسلي الوحيد في نقل أخبارها.
اليوم هو الرابع من أغسطس/آب من ذلك العام، وقد أشرقت شمس ذلك اليوم الذي ظننته مهيباً بالبشائر. توجهت إلى سيارتي وأنا في أبهى حلة، وكأني ذاهب لخطبة عروس. كان الهواء يحمل وعداً، ورائحة العطر التي وضعتها تملأ المكان. وصلتُ البيت وألقيتُ السلام وقابلتُ أختي. ومن ثم ألقيتُ سؤالي الذي كان يتردد في أعماقي منذ أسابيع، ويا ليتني لم أسأل!
كان الجواب سريعاً ومريعاً، كصاعقة نزلت على رأسي. في غمضة عين، تغير المكان، وضاع الوقت والزمان. دارت بي الدنيا، وانتقلتُ من عالم الواقع إلى عالم آخر بعيد، كأني في كوبٍ مغلق أُلقيَ بي في الفراغ. قدماي لم تقويا على حملي، يداي بدا وكأنهما مشلولتان، ولساني توقف عن الكلام. عقلي وقلبي تركاني وهاجراني، كل هذا في طرفة عين. كانت لحظات لن أنساها أبداً، لحظات لا أتمناها لأعدائي. ماذا حدث؟ ما الذي جرى؟
الخبر الصاعق: حبيبة القلب ومهجة الفؤاد... تزوجت! نعم، تزوجت بعد أن تقدم ابن عمتي لخطبتها. ابن عمتي ، صاحب الحافلة وأميرها ،الذي سلمني الجوازات لأختمها، هو نفسه من تزوجها. كل هذا حدث بسرعة فائقة، وفي البلد، بينما كنتُ أنا أسابق الزمن في العاصمة لأرسم طريق حياتي، وأبني آمالاً وأحلاماً وردية. سحقاً للحياة التي رسمتها، ولآمالي التي بنيتها! آه... ثم آه.
تركت المنزل دون وداع ولا كلمة. أختي لم أكلمها من يومها، فقد كانت صدمة أكبر من أن أستوعبها. كيف حدث كل هذا؟ أين الحب والعشق والهيام الذي بنيته في مخيلتي؟ تذكرتُ... هذا هو جواب القمر الذي سألته في ليالي العشق الأولى.
حزنتُ كثيراً، وبكيتُ طويلاً، كتمتُ غيظي وصمتُّ عن كلامي. استمر الألم يخنقني حتى جاء الليل وأسدل ستاره الأسود على روحي، وطلع القمر وصحبته النجوم، شاهدين على وحدتي. وأنا في مكتبي، وسط هذا الظلام الدامس، جاء قلمي وكأنه ينطق قائلاً: "لا تكتم، بل عبِّر! علّك ترتاح." هنا... كتبتُ "أحزاني".
رحلتِ عني والدمعُ مذ غبتِ في انسكابِ
والقلبُ من لوعةِ الذكرى في اكتئابِ
ألم يكنْ فؤادي يهوى هواكِ؟
وقلبي لرؤياكِ دوماً في ارتقابِ؟
عودي، فإني لم أعد أطيقُ تصبُّرًا
وهل لكِ عودٌ بعد طولِ الغيابِ؟
فلقد سألتُ الناسَ عنكِ في كلِّ
أرضٍ
إلى أن غابَ من جسمي شبابي
فعسى ترحمي مُدنَفَ شوقٍ
أحبكِ، وأردتُ أن أعرفَ ردَّ الجوابِ
إلى متى أرتجي منكِ اتصالاً؟
أقريبٌ هوَ أم إلى يومِ الحسابِ؟
فلا تبخلي بالوصلِ، إني عاشقٌ
ولا تهجري من ذاقَ مرارةَ العذابِ
فبعدكِ عني حطَّمَني، ودمَّرَ كلَّ حُبٍّ
حتى صارَ قلبي كالأطلالِ بينَ الخرابِ
وجرتِ الدموعُ على الخدَّينِ شوقاً إليكِ
كجريِ السيولِ بينَ الجبالِ والشعابِ
ما كانَ ليضيركِ شيءٌ لو وصَلتِ مُعذَّباً
لكنَّ خجلي كانَ كالشمسِ خلفَ السحابِ.
ألأنني أحببتُ حباً لا مثيلَ لهُ؟
وعشقتُكِ عشقَ الأصحابِ والأحبابِ؟
أهذا جزائي لأني أحبكِ؟
أم هوَ كأيِّ سببٍ من الأسبابِ؟
فواللهِ إنكِ آلمتِني وحيَّرتِني
حتى ما عدتُ أعرفُ الخطأَ من الصوابِ
فبِتُّ الليالي أردِّدُ أبياتَ شعري
وقلبي من نارِ حُبِّكِ في التهابِ
واعتزلتُ الناسَ وعشتُ وحيداً
وهاجرتُ دنيا الحبِّ وعشتُ في اغترابِ
أهذا حالُ العشاقِ دوماً؟
حتى إذا ما اخترقوا النجومَ مثلَ الشهابِ؟
فلا ملاذَ اليومَ لمُتَيَّمٍ باعَ نفسهُ
وعجباً لمن قد باعَها للعذابِ
فلقد بعتُ نفسي وروحي لأجلكِ
واشتريتُ الحبَّ فدفنتيهِ تحتَ الترابِ
هذهِ أحزاني وهذهِ أشواقي
سطورٌ ستظلُّ عبرَ التاريخِ في كتابي.
تعليقات
إرسال تعليق