بقلم: فايل المطاعني
في زاويةٍ من هذا العالم المتسارع، حيث تُختنق الأصوات بين جدران المدن، وتذوب الأحلام في ضجيج الواقع، كانت هناك امرأة تُدعى "نادية". لم تكن نادية مجرّد اسم مرسوم على صفحة بل كانت مرآةً لكل أنثى أحبّت حتى الذوبان، ثم استيقظت على صقيع الفقد.
في قلبها وطنٌ انهار، وفي عينيها نافذة مفتوحة على السماء، تبحث فيها عن ظلّ حبيبٍ مضى، وعن مجدٍ كانت تعتقد أنه لن يزول.
هذه ليست حكاية عابرة... بل نزيف ذاكرة، وعناق أخير بين الحب والجنون.
هذه قصة نادية...
الفصل الأول: "سأعود عند المغرب..."
في تلك الغرفة العقيمة رقم اثنين وعشرين، حيث تتشابه الأيام وتذوب الساعات في صمتٍ ثقيل، كانت "نادية عبد اللطيف" مستلقية بلا حراك، تنظر إلى سقف أبيض كالكفن. عينان جافتان من البكاء، ووجه فقد ملامحه من فرط الذهول.
في يدها ورقة صغيرة، مهترئة، متهالكة كما قلبها. كانت تلك الرسالة الأخيرة من طاهر...
"لا تقلقي يا حبيبتي... سأعود عند المغرب."
لكن المغرب جاء، والمساء تلاه، والسنين بعدها، وطاهر... لم يعد
في ركن الغرفة كرسي خشبي لا يجلس عليه أحد، وطاولة طعام باردة، وسرير كأنه شاهد قبر. لا أحد يطرق بابها سوى الممرضة، بابتسامة شفافة ودواء لا يشفي.
نهضت نادية ببطء كمن يسير في حلم، اقتربت من النافذة، تنفست رائحة بعيدة، ثم صرخت بكل ما تبقى من حنجرتها:
"أين أنا؟
أين مجدي؟
أين عائلتي؟
أين طاهر؟!"
كانت الصرخة أشبه بانفجار الذاكرة. راحت تضرب الزجاج بكلتي يديها:
"طاهر... طاهر... لماذا تركتني؟! لماذا دفنوني هنا وأنا ما زلت على قيد الانتظار؟! هل أحد يسأل عن نادية؟!"
ولم تلتفت حين فُتح الباب، لم تكن بحاجة أن ترى لتعرف من القادم.
إنها الممرضة.
الدواء.
الروتين.
أما نادية، فهي تعرف تمامًا أين هي...إنها تقبع في مصحةٍ نفسية.
لكن روحها ما زالت في مكان آخر، هناك… في الزمن الذي توقف عند لحظة الوداع.
في عالمٍ لا يعترف بانتظار العاشقات، تسقط نادية بين حقيقة الجنون ووهْم الحب.
لكن هل كانت مجنونة حقًا؟ أم أن الواقع هو من فقد عقله؟
ستبوح نادية في الفصول القادمة بأسرار لم يتوقعها أحد، وسنكتشف:أن خلف كل عين دامعة، قصة لم تُروَ بعد.
يتبع...
الفصل الثاني: الرجل الغامض
حين تسيطر الأنانية على روح الإنسان، يتحول ذلك الكائن البشري إلى وحش في هيئة بشر.
دخل رجل من بوابة المستشفى مسرعاً، يتعثر في خطواته وكأن شيئاً ما يطارده. بدا عليه الهلع والخوف، لكن ملابسه الأنيقة وطلّته الراقية، ووجهه المشرب بحمرة خفيفة، كانت تروي قصة مختلفة. لحية مشذبة بعناية، يتداخل فيها البياض مع السواد بتناغم لافت، حتى يخيل لمن يراه أنها قد صُبغت خصيصًا بهذا الشكل.
اتجه مباشرة إلى صالة الاستقبال، حيث يجلس شابان؛
الأول كان منغمساً في قراءة صحيفة رياضية، يتابع بشغف أخبار فريقه الأوروبي المنتصر في مباراة الأمس.
أما الآخر، فقد انشغل بهاتفه، يقلبه بتأفف، ويلقي بنظرات جانبية نحو زميله، بينما تتجول عينه الأخرى بين الزائرات الداخلات إلى المستشفى.
قال الرجل بنبرة مهذبة:
– السلام عليكم.
لم يتلقّ أي رد.
فطرق بخفة على الطاولة، مما جعل الشاب الأول ينتبه فجأة، فاعتدل في جلسته وبدأ بالاعتذار:
– آسف، أيها السيد، كنت منشغلاً بقراءة...
لكن الرجل قاطعه دون اهتمام، وسأل مباشرة:
– أين أجد الدكتورة بدرية علي؟
بدت علامات الدهشة على وجه الشاب، لكنّه وقف سريعًا وأشار بيده نحو الأرضية الملوّنة قائلاً:
– اتبع اللون الوردي، سيقودك إلى الممر، ثم انحرف يميناً، ستجد مكتب الدكتورة بدرية... ثالث مكتب على اليمين.
وقبل أن يُكمل الشاب جملته، كان الرجل قد انطلق يتبع خطوط اللون الوردي المزخرف على أرضية المستشفى، دون أن ينطق بكلمة.
لكنّه ترك خلفه أثرًا لا يُنسى... رائحة عطره الفرنسي الفاخر (Suave)
تعليق الشاب وهو يسند ذراعه على كتف زميله:
– يا له من رجل غامض...
يتبع...
الفصل الثالث: الانتظار
حين تسيطر الأنانية على روح الإنسان، يتحول ذلك الكائن البشري إلى وحش في هيئة بشر.
تظاهرت نادية بالنوم عندما دخلت الممرضة خلود إلى الغرفة. كانت تكره الإبر، لأنها تجعلها هادئة وخاضعة، وهي لا تريد لأحد، مهما كان، أن يسيطر عليها.
عرفت خلود منذ زمن طويل. فتاة جميلة وحنونة، تتولى رعايتها منذ فترة، لكنها لا تصدّقها. لا تصدّق قصصها، ولا مشاعرها. نادية فقط تتظاهر بالتصديق، لأنها تعتقد أن هذه من واجبات الممرضة: التمثيل معها، لأنها "مجنونة" في نظرهم جميعًا.
أشاحت بوجهها نحو الوسادة المجاورة وقالت بابتسامة خفيفة، وكأنها تحدث صديقة عزيزة:
– أنتِ صديقتي الوحيدة... أشعر أنك تفهمينني.
أخرجت من تحت الوسادة قصاصة ورقية صغيرة، تخبئها بعناية حتى لا تراها خلود، وتابعت بفرح يشبه فرح الأطفال:
– هذه الورقة كتبها حبيبي طاهر... قال إنه سيعود هذا المساء. أنا أنتظره، أنتظر عودته... هو لا يكذب عليّ، لم يكذب عليّ قط منذ تزوجنا...
في هذه اللحظة، اقتربت خلود منها بابتسامة دافئة، ووضعت يدها برفق على جبين نادية:
– مساء الخير يا حلوة... لم أرك البارحة، كنت مشغولة، لكن اليوم جئت لأراك.
نظرت نادية إلى يديها بقلق، كأنها تسأل: "أين الإبرة؟ أين الدواء؟"
لاحظت خلود ذلك، فرفعت يديها الفارغتين وقالت مازحة:
– انظري... لا أدوية اليوم، لا إبر!
ضحكت وأضافت: اليوم سنتحدث... ما رأيك؟
توسعت عينا نادية فرحًا، وجلست على الكرسي الوحيد في الغرفة: يعني... لا توجد إبر اليوم؟!
وضعت يدها على شفتيها وكأنها تفكر، ثم قالت بلهفة: هل جاء طاهر ليأخذني من هنا؟
قفزت من مكانها مسرعة نحو النافذة، تحاول فتحها بفرح عارم. أشارت إلى الشمس التي بدأت تغرب:
– انظري يا خولة... هناك! الشمس تغرب! هذا موعده... قال لي سيأتي بعد الغروب.
عادت إلى وسادتها، احتضنتها، رفعتها عاليًا، ثم ضمتها مجددًا وهي تقول: ألم أقل لكِ؟ سيأتي... لم يخلف موعدًا يومًا... هو بطلي.
اتجهت نحو خلود، وضعت يدها على كتفها وهزته برقة:
هل جاء بملابسه العسكرية؟ هو يعرف أنني أحب رؤيته بها... مشيته، هيبته... صدقيني، إنه بطل.
وحين لم ترد خلود، جثت نادية على ركبتيها، أمسكت بيدي الممرضة وبكت بحرقة.
خلود كانت حائرة، لم ترَ نادية من قبل تتكلم بهذا الأمل... بهذا الحب.
قالت في سرها بدهشة: مستحيل... لا تبدو مجنونة. تتذكر زوجها، تفاصيله، مواعيده بدقة... وتنتظر عودته كأنها فتاة تنتظر فارس أحلامها.
ثم نظرت إليها بدهشة أكبر وهمست: لكنها تناديني بخولة... من تكون خولة؟!
يتبع...

تعليقات
إرسال تعليق