إلهام المطر

بقلم: زهرة الراسبي

غلفت أجنحة الغموض الضبابية، أحاسيسي بعد انتباهي من النوم العميق، الذي شعرت بأني غرقت به لألف سنة ويوم، ولا تسألوني عن هذا اليوم!

ربما تكون صحوتي هذه في صباح منعش، أو مساء مضيء، لم أُبالِ في معرفة الوقت، كما لم تنطلق عيناي نحو ساعة الحائط كعادتها بعد الصحوة مباشرة من النوم، فحينها كانت جاذبية الاكتشاف تشدني إلى الانطلاق لعالم غير معهود، إذ شعرت فيه أن الأرض تخلّت عن شيء من قساوتها، لتلبس ملمسًا وافر الليونة، لتدغدغ أقدامي التي بدأت تخطو بسرعة إلى خارج الغرفة، لأحظى بجمع العديد من الصور الغريبة في ذاكرة تفكيري.


لم أشعر بالخطوات أثناء تسابقها في الدرج المبلل، ومن بعده الممر الصغير، إذ وجدت نفسي خارج نطاق الغرف بلا مقدمات، وإذا بالفناء الخارجي، الصاخب بموسيقى المطر الضاربة على أرضية الفناء الحصوية، يعج بالأحداث المتتالية كتتالي حبات المطر الهاطلة، بنشاط متجدد.


إذ مشيتُ إليه لأؤدي له التحية، فقد مرّ زمن لم نتقابل فيه، فابتسمتُ وأنا أمشي في الفناء متجاوزة ستائر المطر الشفافة، والغريب أنها لم تبللني برغم كثافتها وسقوطها على رأسي وكتفي. غريبٌ هذا المطر الذي لا يُبلل!


بسطتُ راحتي لأستبين سره، فزادت حيرتي فيه! إذ كانت بعض القطرات شديدة البرودة، والأخرى دافئة كدفء الدمع. تُرى، هل السماء تبكي معي؟ أم ترشّني بفرح بارد؟! أم أنه مجرد انعكاس لشعور عابر فقط؟ وهناك على أطراف الفناء رابطت شجيرات لتحدث ضوضاء متواترة، وبدت انحناءاتها المتكررة بجنون، تغالب الرياح المحمّلة بأوراق الأزهار المتطايرة. نظرتُ إليها مستفهمة عن سر تصارعها مع الرياح بهذه القسوة؟ فأجابتني بحفيفها الذي يشتد مع الرياح بأنها تمازح الرياح فقط، وليس لها يد في المصارعة، كما أنها تستعد لتبدأ حفلتها الراقصة بعد قليل، ترحيبًا بمهرجان الألوان الزاهية. تُرى، أية ألوان تقصد؟ فأضاءت الدنيا بومضة شديدة، إذ جعلتني أرى النمل المختبئ بين الشقوق في الجدران المبللة، كما حظيت برؤية الوريقات الصغيرة وهي تلهو فوق تموجات البركة الناشئة في الفناء، كقوارب راسية بميناء صاخب، يعج بالنشاط.


فدار بصري نحو جميع الاتجاهات لأستبين مصدر هذا الضوء الخرافي الذي جعلني أرى ما لا يمكن رؤيته بهذا الوقت المظلم، والمزدحم بالأحداث، فلم أجد المصدر حولي، لأرفع عيني عاليًا لأرى ضوءًا مكهربًا، يشقّ البصر لإضاءته الخافتة، إنه البرق، وحليفه الرعد، يتسابقان في السماء، ليرسما معًا أجواءً احتفالية بنزول المطر.


كان الضوء يكشف تلامع تيجان الزهور المثقلة بدرر المطر، أما الرعد فكان يدق طبول الاستقبال لأجواء المطر المفرحة، ولم أجتهد لمعرفة أيهما أسبق من الثاني: الضوء أم الصوت؟ فهما معًا في غاية الانسجام.


ولكني استغربتُ من تلك النافذة المختبئة وراء البرق الوضاء، فلم أَحْظَ برؤية نافذة رعدية شقها الرعد من قبل!


شدني الفضول إليها، فتسلقت غصون الشجيرات المائلة، ومنها إلى غصون الورود المتزحلقة في الجدران، وعبر الهواء، ومنها إلى تيجان الورود المحلقة مع الرياح.


بصعوبة بالغة تلقفتْ يداي أطراف النافذة الرعدية التي هزّت أوصالي برعب كهربائها المجنونة، فتخلصتُ منها بسرعة لأدخل في عالمها المحيّر بألوانه الضبابية، وتقاسيمه المضيئة.


تفاصيل هذا العالم قريبة من عالمنا، لولا ملامحه الدخانية، وشفافية أجسامه الزاهية. غمرتني السعادة وأنا أخطف الخطوات عبر الدروب الإسفنجية، إذ ينطلق الدخان حاملًا معه عطوره الأخّاذة برائحة الورد والفواكه، كلما حطت رجلي فيها. وإذ تأملت أشجاره المتلألئة بثمارها الندية، وتلك الحشائش المثقلة بندى النقاء، شعرتُ بأن شفافية الواقع تفرض سيطرتها على كل التفاصيل والوقائع، فأحببت التجريب فيه، وقياس مدى شفافيته، فاستنشقتُ بسرعة كمية هواء ملأت رئتَيّ بانتعاشة، فصرختُ بكلام يتخلله الزور، فبدا مبحوحًا، ولم يغادر المسافة القريبة مني، فقد رفضت جزيئات الهواء أن تتناقله، فليس هناك من فائدة تُرجى لنقل كلام يُرفض سماعه هنا. ومرة أخرى صرختُ بكلام تفوح منه رائحة المعصية، وحاولتُ أن أجعل صوتي أعلى وأقوى من المرة السابقة، لكن كان كصوت البط، لا صدى ولا مجيب! فرفعتُ رأسي عاليًا وأنا أتأمل بتعجب هذا العالم الذي ينفي أي محاولة للتدليس أو الكذب. فطرقتْ ببالي فكرة أخرى: لما لا أعكس الصورة أو المحاولة؟ فأجرب، فأقول كلمة حق؟ فجعلتُ أرددها بين شفتيّ كتمهيد لقولها، وإذا بالأصداء تحملها بسرعة البرق، لتنشرها في الآفاق على مرأى ومسمع الكل، فتتردد لعشرات المرات، بل لمئات المرات، وفي كل مرة تغوص في أعماقي أكثر من ذي قبل، وفي كل مرة تؤكد قوتها ورسوخها، مهما كلفها الأمر، حتى إني أحيانًا أنسى أني مصدر هذا الصدى، فأنبهر بالحق المجلجل بثقة ملأت الأكوان.


لم أتخيل مرة بأني سأُعايش عالمًا، الحقيقة فيه تعلو بلا خوف، والزيف يضمحل بصمت خجول. فضحكتُ حتى امتلأ قلبي غبطة، وبكيتُ حتى ذابت عيني. فلم أضحك كضحكي في هذا اليوم، ولم أبكِ كبكائي هنا. بللت الدموع وجهي، والأرض الإسفنجية التي بدأت تبرد من ندى الدمع، فشعرتُ بالريبة، وأنا أتلمس الأرضية، أَيُعقل أن تصل إليها الدموع! شاركني الرعد بجلجلته لحالة الريبة هذه، مما زاد ارتعاد أوصالي، فشهقتُ بعدما فتحتُ عيني بأقصى اتساع لها، فإذا بكل شيء يختفي، ولم يبقَ أمامي إلا غرفتي.


ثوانٍ بقيتُ فيها متسمرة أستوعب بأن كل ما مرّ كان حلمًا عابرًا كأي حلم، وتداخلت عناصر الطقس النشطة في الخارج في تلوين الحلم معي، كما أخبرتني نافذة الغرفة بذلك، المنتعشة بحبات المطر المتماوجة على صفحتها. تأملتُ العالم من وراء النافذة المنتعشة بحبات المطر المنسابة على صفحتها، فقد كانت الشمس قد مزقت بعض جبال الغيوم بسيوف أشعتها البيضاء، ليرتفع شريط الألوان المقوّس فوق السحاب، فتهاتف الأطفال لرؤيته بشغب بريء. إذا هذا هو مهرجان الألوان الزاهية الذي أخبرتني عنه الشجيرات.

المهم أن عالم الحقيقة ذاك، لم يكن حقيقيًا إلا في قلوبنا، إذ نتمناه ونتخيله ولا نطبقه، فنسقط ضحايا بعضنا البعض.

ربما يساعد المطر في غسل قلوبنا بين الحين والآخر.

أو ربما يذكّرنا الرعد بقوة الخالق التي تفوق القوى.

أو يذكّرنا البرق بمصيرية كشف الحقائق.

أو يوحي لنا قوس قزح بالنهايات السعيدة والحتمية للمؤمنين.

عالمنا الواقعي لن يتغير من أزل الأزل إلى الأزل، ولكنه جميل بعناصره المتضادة، لأنه من تدبير ملك الجمال ومحبته.

فتباركت يا ذا الجلال والإكرام.


تعليقات