بقلم: ناصر بن محمد الحارثي
صباح يومٍ جديدٍ، مضى عليه ستة وتسعون يوماً، وأنا أعيشُ ألمَ الفراقِ المريرَ. كنتُ معتكفاً في غرفتي، وفي مكتبي الصغير الذي أصبحَ ملجئي. روحي تبدّلتْ، وآمالي تحطَّمتْ، حتى أوراقُ حياتي تبعثرتْ كأنها لم تكنْ. في تلك الأيام، تذكرتُ قول الممثل الراحل يونس شلبي في أحد أفلامه: "أنا مخنوقٌ من جوه". لم أكن أعرف معنى هذه الكلمة حقاً حتى عشتُها في واقعي الأليم. كان الخنْقُ يطبقُ على صدري، لا هواءَ يدخلُ، ولا زفيرَ يُريحُ.
صديقي القمرُ لا يزالُ غامضاً، ولم يهدِني جواباً شافياً لمصيبتي. في كل ليلةٍ يزورُ سمائنا، أسألُهُ في صمتٍ موحش: "يا قمرُ، الهمني. يا قمرُ، حدّثني، كيف النجاة؟ أين بذورُ الأملِ التي تزرعُها في كل مكانٍ؟" هنا، أجابني بكل حزمٍ، وكأن صوتهُ يرتدُّ من أعماقِ الوجود: "اعلمْ يا صديقي أن الرياحَ دوماً لا تجري بما تشتهي السُفُنُ." ثم ذهبَ عني، تاركاً خلفهُ سكوناً يحملُ حيرةً وألماً مضاعفاً في روحي.
أنهيتُ عملي وعدتُ إلى بيت أبي، واعتكفتُ في غرفتي. رنَّ جرسُ البابِ فجأةً، فأمرني والدي أن أفتحَهُ. وهنا كانت المفاجأة، الصدمة العارمة التي لم أتوقعها أبداً. إنه ابنُ عمتي، نعم هو ذاكَ، صاحبُ الحملة الذي طالما صحبني معه في رحلة العمرة بلا حساب. جاء لزيارة عمته ووالدي اللذين تربطهم صلةُ قرابةٍ قويةٍ، لكنه لم يكن وحيداً هذه المرة... بل جاءَ معَ عروسهِ الجديدة. قادمينِ من البلد، نعم، هي مهجةُ القلبِ، والحبُّ الأولُ في حياتي.
فتحتُ البابَ، وعانقني، فقلتُ له بصوتٍ خفيضٍ لا أدري كيف خرجَ مني: "تفضل." دخلَ هو المجلسَ، ودخلتْ هي صالةَ النساء. لم أنظر إليها، ولم أستطع أن أسلمَ عليها. يا له من موقفٍ! لا أعرفُ كيف أصفُه: أهو عقابٌ لي؟ هل هذا هو جزاءُ حبٍّ طاهرٍ لم أرتكب فيه ذنباً؟ لم أجد الكلماتِ للحوارِ، تركتُ المجالَ لوالدي وضيفهِ، وظللتُ مستمعاً. دلةُ القهوةِ وفنجانها كانا في يدي، أصبُّ القهوةَ لهما فقط، وأنا ضائعٌ في غياهبِ المكانِ، روحي تائهةٌ في بحرٍ من المرارةِ والذهولِ، رائحةُ البخورِ والقهوةِ تختلطانِ برائحةِ انكساري.
انتهى اللقاءُ، وجاءَ وقتُ الوداعِ. بقيتُ واقفاً أرقبُ سيارتهُ تمضي وتختفي من نافذةِ غرفتي، وعروستهُ الجديدةُ بجانبهِ. آهٍ من سخريةِ القدرِ! تنهدتُ وتشهدتُ، ولم أجدْ إلا قولَ "لا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ العليِّ العظيمِ". فلا أملكُ غيرَها في هذا الهولِ. هنا، عادَ بي الحنينُ، وزارَتْني مشاعرُ الشوقِ، وإلهامُ القلمِ. فقلتُ: "لِمَ أيها الغالي؟"
لِمَ أيها الغالي؟
بَعُدْتِ عني كَبُعْدِ المشرقِ والمغربِ
وتركتِني حائراً متسائلاً باستغرابِ!
أليسَ الحبُّ هوَ الذي جمعَ بيننا؟
حتى غارَ منْهُ هنا الأصحابُ والأحبابُ!
ألستُ أنا الذي أحببتُكِ حُبَّ قيسٍ لليلى؟
حبٌّ كادَ أنْ يُفقدني صوابي.
ألستُ أنا الذي عشقتُكِ عشقَ جميلٍ لبثينةَ؟
عشقاً كادَ أنْ يُنهي شبابي!
فلأجلكِ ذقتُ طعمَ الأسى ومَرارةَ الذُّلِّ
فتركتِني وحيداً أعاني منَ العذابِ.
وبسببكِ فقدتُ الأملَ في الحياةِ
ومضيتُ جلَّ عمري أعيشُ في اكتئابِ.
فما عُدتُ أرى منَ الحبِّ جدوى
لا اليومَ ولا غداً، إلى يومِ الحسابِ.
فلِمَ أيتها الغاليةُ تجرحينَ مشاعري؟
وتهبينَني الأسى، ثمَّ تُميتينَ روحَ شبابي؟
أينَ العباراتُ التي زخرفتُها؟
وأنشدتُها يومَ التلاقي، وأينَ لينُ خطابي؟
يا عابثةً بمشاعري! يا بخيلةً بسعادتي!
يا مُتقِنةً إتعاسي وإغضابي!
قولي: لِمَ سجنتِني، وسجنتِ بلابلي؟
وغدوتِ تُسمعينَني نعيقَ غُرابِ!
وتركتِني في دربِ حزنٍ لا ينتهي
بِخُطَايَ منْ سردابٍ إلى سردابِ!
يا ويلَ آمالي! ويا ويلَ أحلامي التي
طرّزتُها في خيمةٍ مبتورةِ الأطنابِ!
أقمتُها على وحلٍ، فما طابتْ لي
سكناً، ولا سَلِمَتْ منَ الأوصابِ.
فما الناسُ إلا بالقلوبِ، فإنْ يمتْ
خفقانُها، فالناسُ كالأخشابِ.

تعليقات
إرسال تعليق