بقلم .طاهرة الشامسية
في لحظة من لحظات الزمن التي لا تُنسى، توقف التاريخ العُماني ليرفع قبعته احترامًا لقائد عظيم ترجّل عن صهوة المجد، بعد أن كان فارسها، وسيد ميدانها. ترجل السلطان قابوس بن سعيد - طيب الله ثراه - عن صهوة يوليو المجيد، تاركًا وراءه إرثًا خالدًا، وحضارة نمت من رحم الصحراء، وقصة نجاح كتبها بعرق شعبه، وحكمة عقله، ونُبل مقصده.
يوليو.. لحظة التحول
لم يكن يوم الثالث والعشرين من يوليو عام 1970 يومًا عاديًا في حياة العُمانيين. بل كان ولادة جديدة لوطن نفض غبار العزلة، وفتح أبوابه لرياح التنمية، والنور، والانفتاح. لقد خرج قابوس في ذاك اليوم من رحم التحديات، حاملاً في قلبه حبًا لا يُضاهى لأرضه وأهله، رافعًا راية التغيير بشجاعة، وحكمة، وثبات.
قال في خطابه الأول: "أيها الشعب.. سأعمل بأسرع ما يمكن لجعلكم تعيشون سعداء." ولم تكن كلمات عابرة، بل كانت عهدًا صادقًا أوفى به حتى آخر نبضة في قلبه. ومنذ ذلك اليوم، بدأت عجلة التغيير تدور، بسرعة واثقة، وقلب نابض بالإرادة.
ترجُّل لا يشبه الغياب
حين ترجّل السلطان قابوس عن صهوة يوليو المجيد، لم يترجّل كغيره من الزعماء. لم يكن رحيله فناء، بل كان امتدادًا لمسيرة بدأت بنور وانتهت ببصيرة. فقد ترك وراءه وطناً ثابت الأركان، متماسك البنيان، شامخًا في محيطه، وفاعلًا في أمته، ومحطّ أنظار العالم.
لقد ترك بصمته في كل حجر نُقل، وكل مدرسة بُنيت، وكل مستشفى شُيّد، وكل فكرة انطلقت من فكر نيّر، مستنير. في الطرق التي عَبَدت، وفي العقول التي نُوّرت، في السياسة التي اتسمت بالحكمة، وفي السلام الذي كان نهجًا لا مجرد خيار.
مدرسة قابوس
قابوس لم يكن فقط قائدًا سياسيًا، بل كان مدرسة متكاملة في فن القيادة والحكم. اتخذ من الحوار منهجًا، ومن الصبر سلاحًا، ومن الحب لأرضه دافعًا لا ينضب. علمنا كيف يكون البناء الحقيقي من الإنسان إلى العمران، من الفكرة إلى المشروع، من الحلم إلى الواقع.
كان رؤوفًا بشعبه، قريبًا منهم رغم المسافات، يسير بينهم دون تكلف، يستمع لهم بصدق، ويخاطبهم بلغة الأب والابن، لا بلغة الحاكم والمحكوم. فكيف لا يبكونه حين ترجّل؟ وكيف لا تهتز القلوب حين أرخى لفرسه عنان الرحيل؟
إرث لا يُمحى
بقيت عمان، وستبقى، بلد السلام والتسامح بفضل قابوس. بلد الحكمة والاعتدال، بلد التعايش والتقدم. وها هي اليوم تسير على ذات النهج تحت راية جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم - حفظه الله ورعاه - بكل وفاء للعهد الذي أسسه قابوس، وبكل حرص على حفظ الإرث الذي لا يُقدّر بثمن.
لم يكن يوليو المجيد مجرد مناسبة وطنية، بل هو حجر الزاوية في هوية عمان الحديثة. وحين نقول إن قابوس ترجل عن صهوة هذا الشهر المجيد، فنحن نرثي بدمعة وفاء فارسًا طالما حملنا على صهوة كرامته، وشق بنا طريق المجد، وعلّمنا كيف نحب أوطاننا بصمت، ونعمل لها بيقين.
وأخيرًا...
يا قابوس، يا من كنت لنا النور في الدرب، والفكر في الحلكة، والسكينة في الأزمات. ترجّلت، نعم، لكنك لم تغب. حيّ أنت في القلوب، في الحجر، في النشيد، وفي كل صباح نعيشه في وطن كنت له روحًا لا تُنسى.
سلامٌ عليك في عليائك، وسلامٌ على يوليو المجيد الذي كتبت فيه أول السطور، وسلامٌ على عُمان التي كنت لها البداية والبوصلة والمصير.
تعليقات
إرسال تعليق